التراث.. حفظ للتاريخ أم حماية للمستقبل؟ - زينب عثمان - بوابة الشروق
الجمعة 25 يوليه 2025 7:00 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

ما هي توقعاتك لمصير وسام أبو علي في المرحلة المقبلة؟

التراث.. حفظ للتاريخ أم حماية للمستقبل؟

نشر فى : الأحد 30 يوليه 2017 - 8:40 م | آخر تحديث : الأحد 30 يوليه 2017 - 8:40 م

يطرح هذا المقال عرضا لرؤية للحفاظ على الثقافة والتراث من خلال الحفاظ على الهوية المعمارية أو ما يطلق عليها مصطلح «البيئة المبنية أو البيئة التى يصنعها الانسان» والتى تمثل سجلا يوثق لهوية المجتمع ودليلا حيا على وجوده التاريخى.
يتعين فى البداية التفريق الموضوعى بين لفظى «الحفظ» أو Preservation وبين «الحماية المستمرة» Conservation، ورغم أن اللفظين متطابقين من الناحية الشكلية فى اللغة إلا أنهما يختلفان من الناحية الموضوعية؛ فالحفظ Preservation يعنى الإبقاء على الحالة الراهنة فى وضع ثابت دون محاولة تطويرها وتحقيق استدامتها، أما «الحماية المستمرة» Conservation فتشتمل على إطار أوسع يتسم بالحركة والحيوية لتحقيق الاستدامة لمفهوم «الحفظ» ويتخطى مفهوم الإبقاء على الوضع الراهن للآثار والمبانى دون تطوير إلى حماية الموروث الثقافى والاجتماعى ومنظومة القيم التى تعكسها تلك المبانى التى تعد دلائل حية على مراحل التطور الحضارى على مدى التاريخ المصرى العريق.
بينما يمثل «الحفظ» Preservation بمعناه الحرفى الإبقاء على الكيان المادى فإن «الحماية المستمرة» Conservation تعنى تحقيق الغاية من حفظ هذا الكيان وهى حماية المنظومة الثقافية الوجدانية التى يمثلها، كذلك فإن ما نشهده فى عالمنا المعاصر من تهديدات وتحديات تؤكد أن كسب معركة «الحماية المستمرة» هو السبيل الوحيدة للحفاظ على الوجود وحماية حق الأجيال المقبلة من الأبناء والأحفاد حتى لا يرثوا وطنا بلا هوية رغم كونهم نتاج أعظم الحضارات والثقافات.
***
من المنظور الدولى يأتى فى مقدمة أولويات الحماية الإنسانية الحفاظ على البيئة الطبيعية فى عالم تراجع فيه مخزون الموارد وشهد تزايد الطلب السكانى عليها ليمثل ضغطا غير مسبوق ينهك كوكبنا ويدفع بنا جميعا إلى مصير مجهول.
يلى ذلك تحدى الحفاظ على التاريخ والثقافة فى حقبة تصاعدت فيها موجات هجوم جماعات الشر سعيا لتدمير المدن وهدم الآثار فى إصرار مذموم على إزالة أى علامة من علامات الحضارة ومحو الثقافة والهوية، وهو ما شهدناه من تدمير ممنهج للمدن القديمة فى العراق وسوريا وهدم وحشى للمساجد والكنائس العريقة التى بقيت لمئات السنين شاهدا على مولد المسيحية وعلى عظمة مبادئ الإسلام فى محاولة دنيئة لاقتلاع جذور التسامح والتعايش السلمى وقبول الآخر واحترام الاختلاف دون تطرف أو تعصب أعمى يدفع بنا جميعا إلى أتون مستعر من حمم الكراهية والحقد التى نهى عنها الدين الإسلامى ونبذتها كل الأديان والقيم الإنسانية.
أما ثالث التحديات فهى الاعتناق الحالى لأخلاق الطمع وقيم المادية والانتهازية ومنهج الاستهلاك الذى يمثل عنصرا أساسيا فى عدم احترام التراث والسعى لتحقيق المكسب السريع على حساب هدم التاريخ والثقافة والحضارة.
لابد أن نعى جميعا أن حماية البيئة والتراث المعمارى هى وسيلتنا ليس فقط لتدعيم ماضينا المشرق بل هى سبيلنا لتقوية جذور الحاضر وتحقيق ما نتطلع إليه فى المستقبل وأول خطوة على هذا الطريق هى الحفاظ على المبانى التاريخية وثانيها هو توفير الحماية للبيئة الحضرية المحيطة بهذه المبانى الأثرية، أما الخطوة الثالثة فهى تحديث وتطوير الحرف والمهارات والصناعات التقليدية التى تدعم هذه البيئة وصولا إلى استعادة النسيج الثقافى القوى والمستدام للتراث التاريخى الذى يدعم بدوره الهوية المصرية ويقوى مشاعر الفخر بالوطن والانتماء له حين يولد أولادنا وشبابنا ويعيشون فى مناخ صحى يتعلمون فيه احترام التاريخ والاعتزاز بالهوية والحفاظ على الثقافة ويستشرفون من كل تلك القيم لبناء المستقبل المشرق لبلدهم.
***
فضلا عن كل ما تقدم فإن المفهوم الواسع «للحماية المستمرة» للتراث يمثل جدوى اقتصادية واستثمارا ذا عائد مربح يتجاوز المنظور السطحى الضيق للترويج لمقصد سياحى أو مزار تاريخى ويسعى لجنى حصيلة هزيلة من بيع تذاكر الدخول ويرتقى إلى إرساء تنمية مستدامة لصناعات وسيطة وخدمات مكملة وحرف تقليدية تخلق فرص عمل وتدير عجلة الاقتصاد لتدعم تنمية المجتمع ولا شك أن هناك عشرات من النماذج الدولية الناجحة التى يمكن الاستفادة منها فى مجال تعزيز اسهام حماية التراث فى تنمية المجتمعات الحديثة.
كذلك فإن الحفاظ على الطابع المعمارى والبيئة الحضرية يرسى فى المجتمع الأساس المتين للترابط الفكرى الذى يرتكز على الذاكرة الجمعية ويقضى على نزعات الأنانية والفردية والنأى بالذات عن مشاعر الانتماء والرغبة المحمومة للفوز بمكاسب رخيصة دون اعتبار لما هو أغلى وأهم.
وتجسيدا لكل تلك المعانى نتطلع إلى نموذج مدينة الفسطاط أو مصر القديمة كما يسميها البعض والتى نشأت كحصون وثكنات عسكرية يقع بجانبها الآن مسجد عمرو بن العاص أول المساجد لنشهد على مسافة قصيرة منه واحدة من أقدم الكنائس، الكنيسة المعلقة، وبقايا أحد المعابد اليهودية وتمثل كلها شهودا على ما تحلى به أجدادنا من صفات التعايش وشيم التسامح واحترام الاختلاف وقبول الآخر وكلها أخلاق حض عليها الدين الاسلامى الحنيف والدليل على ذلك أيضا أن نرى أن الهيكل الخشبى لبناء الكنيسة المعلقة صنعته أيدى نفس العمال المصريين المهرة الذين شيدوا منابر المساجد العظيمة حينما عبروا بنفس المفردات عن طابع معمارى مختلف يعكس اختلاف الرموز مع تأكيده على وحدة الهدف المتمثل فى عبادة الإله الواحد الذى يجمعنا.
كما أن مفهوم حماية التراث لا يتوقف على حفظ المبانى التاريخية فقط بل يمتد ليشمل حماية البيئة الطبيعية من موارد للمياه والأراضى الزراعية وما تحويه من ثروات حيوانية ونباتية.
وإذا ترسخ لدينا الاقتناع بأن التراث هو ميراثنا من الآباء والأجداد فإن الحفاظ عليه لن يصبح ترفا أو رفاهية تتراجع فى الأولوية أمام الضرورات الحالة للحياة أو الظروف الاقتصادية الراهنة المتغيرة بطبيعتها، كما أننا سندرك أنه ليس نافلة يستحب أداؤها، بل هو فرض يتوجب القيام به ومسئولية يتعين النهوض بها إذا ما أردنا تقديم الاحترام الواجب لمن تركوا لنا رصيدا وفيرا من المجد والعزة والكرامة وأورثونا تاريخا إنسانيا ليس ملكا لنا وحدنا بل هو منتج حضارى لكل الأمم، يعد إهداره تعديا سافرا على الإنسانية كلها، وتمثل حمايته إدراكا واعيا لماضٍ مجيد ومشروعا اقتصاديا مربحا لحاضر مزدهر واستثمارا طويل الأمد فى مستقبل أكثر إشراقا.
ونحن خلقنا لعمارة الارض....

زينب عثمان مهندسة معمارية أردنية مقيمة فى بريطانيا
التعليقات