أشاحَت السيِّدةُ بيدِّها حانقةً حين راح الولد يَضع في حقيبَتها الثمارَ الداكنةَ شِبه المَعطوبَة. أشاح بدورهِ في وَجهِها رافضًا أن تنتقيَ بنفسها ما تريد، دافعًا بأنه يَبيع بسِعرٍ أقلّ من الآخرين. تأزَّم المَوقفُ وهي تُقسِم بأنها لن تأخذ الطمَاطِم الطَّرية: لا والله ما آخذ المستوي البايظ ده. سكت مُحدقًا في هيئتها، ولم يلبث أن استكمل المُفاوضات مُقدِّمًا النصيحة الأخيرة: اعصري المستوي واستعمليه صلصة.
• • •
تقول معاجمُ اللغةِ العرَبيَّة أن الفعل اِستَوَى يحمل عددًا من المعاني منها نضج وطاب واستقام وثبت. المُستَوي فاعلٌ، والمفعول به مُستَوىً عليه والمَصدر استواء، ويُعرَف خطُ الاستواء الذي درجنا على التندُّر به ما أحرقنا الصهد؛ بأنه ذاك الحدُّ الوَهميّ الذي يفصل بين قطبيّ الأرض أفقيًا، أما الفعل سوَّى بتشديد الواو فيعني قوَّم، ويقال سَوَّى الولد فراشه أي رتَّبه ونظَّمه، وسَاوَى بين أبنائه أي عاملهم بالمثل، وإذا قيل سَواء بسَواءٍ، وسواء هذا أو ذاك؛ فالمُراد تعادُلٌ بين طرفين وتكافؤ في القدر.
• • •
سوَّاه بالأرض أيّ جعله جزءًا منها؛ سَحقَه وهَرسَه فلم يعد يَظهر منه نتوءٌ أو بُروز؛ والتعبير قد يكون مجازيًا يُدلل على مَبلغ الإهانةِ التي لَحقت بشخصٍ على لسانِ آخر، وقد يكون واقعةً حقيقيَّة، يجري فيها دَكُّ بِناءٍ قائمٍ وجَعله غبارًا، وما أكثر ما سوَّينا بالأرض من كنوز في الآونة الأخيرة، وما أثمن ما فقدنا من قِيم تاريخيَّة ومِعماريَّة يَستحيل تعويضُها.
• • •
الشَّخص السَوِيُّ هو مُعتدِل الخُلُق طيبُ الخِصال، الذي يبدو في العادة مُتوازِن الأفعال والتصرُّفات، وغالبًا ما لا تشوبُ طباعَه علة واضحة مُنفرة. عادة ما يُستخدم وصف السَوِيّ العاقل في مقابل المأفون المُضطَرِب؛ والأخير على النقيض؛ يحمل من السّمات ما قد يثير الخوف والقلق، وربما يرتكب ما يلفت الأنظار ويحفز الاستياءَ والغضب.
• • •
عادة ما لا يرتكب الأسوياءُ أفعالًا شاذَّة مُغرِقة في التطرُّف؛ لا يبادرون باعتداء أو يمارسون التنكيل بغرمائهم، كما لا يتلذَّذون بمرأى ضَعيف في حال هَوان.
• • •
بعض الأحيان تُسوِّي الشَّمسُ الثمارَ وتُنضِجُها قبل مَوسِمها وأحيانًا ما تُفسدها. تتحوَّل الخُضرواتُ الوَرقيَّة إلى عيدانٍ ذابلةٍ جافة بفعل السُّخونة الشديدة المستمِرَّة، يبحثُ الواحد عن حزمَة مقدونس فيجد وريقات مَعدودات تكاد لا تُرى من فرط انكماشها، أعناقها مُتهدِّلة مَحنيَّة ومَذاقها باهت مَمسوخ؛ مثلُها مثل كثير البَشر في أوقاتِ الشِّدة والأحداثِ العَصيبة.
• • •
تشترك عواملٌ مُتباينة في صِناعة أجواءٍ غير مُعتادة هذا العام. المُلوثات البشريَّة التي تكاثرت على الكوكَب وأخلَّت بنظامه البيئيّ أحد هذه العوامِل، تُضافُ إليها الحروبُ الدائرة رحاها هنا وهناك، والتي تزيد من غرابةِ الطَّقس وتُكسِبه حِدَّة يتعذَّر التغلُّب عليها بالطُرق العادية؛ فلا الملابس القُطنية الخفيفة تُلطِّف منه، ولا المَراوح قادرةٌ على مُواجَهتِه، بينما مُكيِّفات الهواء تستهلكُ من الكهرُباء ما يَمنع كثيرَ الناسِ عن استخدامها سوى عند الاحتياج القاهِر؛ خاصة وقد تصاعدت الأسعار بصورة غير مَسبوقةٍ واستفحلت قيمةُ الفواتير وأَجبَرت النسبةَ العظمى على خَفض الاستهلاك الطبيعيّ المُعتاد•
• • •
يُقال سَوَّى الرَّجلُ ديونَه للتدليلِ على سَداده إياها، فإن تعثَّر ونكصَ عن التسويَة الفورِيَّة؛ كان البديلُ في جدولتها أو تقسيمها لأقساط وما شابه. أفرزت الحالُ الاقتصاديةُ المُتدهوِرَة أوضاعًا مُرعِبة، فأصحابُ أعمال عَديدون قد عجزوا عن استردادِ ما لهم من أموالٍ في السُّوق، وكثير الدائنين تحوَّلوا إلى مَدينين، وآخرين سَقطوا تحت وطأة الضَّربات المُتتالية صَرعى أو مَرضى.
• • •
قالَ الحطيئةُ في إنصافِ قبيلة بَني أنفِ الناقة: قومٌ هُمُ الأنفُ والأذنابُ غيرهم.. ومَن يُسوّي بأنفِ الناقةِ الذَنَبا؟ الحقُّ أن الأذنابَ باتت في وَفرة هائلة، يَصعب خلال هذه الأيامِ الكابيةِ حصرُها، أما الأنوفَ فصارت شَحيحةً نادرةً، والسؤالُ في بيتِ الشِّعر استنكاريٌّ ولا شكّ، غَرضه ردّ السُّخرية لأصحابها وضَحدها؛ إذ لا تتعادل في الأعراف كافة مكانةُ ذَنَبٍ مُستحقَر تافه مع مَكانة أنفٍ أشمّ.
• • •
إذا سوَّى المَرءُ الأزمةَ فقد أنهاها على خَير، وإذا سوَّى ملابسَه فقد عدَّل هندامَه وجَعله أكثر قبولًا، أما إذا سوَّى مَعاشه؛ فالقصد أنه بلغَ من العُمر ما يسمح له بالراحة؛ لكن الراحةَ قد لا تكون دومًا على الوَجه المأمول، فضآلة ما تتحصَّل عليه النسبةُ العُظمى من الناسِ في شيخوخَتها؛ تجعل من الأيامِ التالية كربًا متواصلًا، ومَذلة لا ينبغي أن تكون.
• • •
نستخدمُ بعضَ الأحيان ذاك التعبيرَ الرَّاجح، المُستَقَى من المَورُوث الدينيّ: لا يستوي الأعمى والبَصير. والقَّصد في غالب المواقفِ ليس ما شابَ النظرَ من خَللٍ؛ بل ما يُصيبُ الإدراكَ من أعطاب، فيُفضِي بالمُصابِ إلى تخبُّط الأفكارِ والارتباك. بإمكان البَصيرةِ ما كانت نافذةً سَليمة؛ أن تُغنيَ عن وظيفةِ العَينين وعن قوَّة الإبصار والعَكس غير صَحيح بالمرَّة؛ فالحُمق داءٌ لا تداويه الحواسُّ الطبيعية، وأكم من حَمقى في كلّ أوانٍ ومكان؛ يتمتَّعون بصِحَّة الجَّسد ويَعدمون سَلامة العَقل والرؤية الثاقبة.