سلاح ضد الوطن والدولة! - محمد الهادي الدايري - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 3:08 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

سلاح ضد الوطن والدولة!

نشر فى : الأحد 30 أكتوبر 2022 - 8:35 م | آخر تحديث : الأحد 30 أكتوبر 2022 - 8:35 م
استهجن أكثر من مندوب فى جلسة مجلس الأمن، المنعقدة يوم الإثنين 24 أكتوبر المنصرم، أحداث نهاية شهر أغسطس الماضى المأساوية والتى أدت إلى 32 قتيلا وعشرات الجرحى. لم تكن هذه الاشتباكات الأولى من نوعها، فقد سبقتها مآسٍ أخرى أدت إلى مقتل العديد من المدنيين، من ضمنها مأساة «السبت الأسود» فى بنغازى عندما قتل يوم السبت 8 يونيو عام 2013 ما يقارب من 28 مدنيا وجرح 27 متظاهرا، جرمهم الوحيد أنهم طالبوا، أمام معسكر (درع ليبيا 1) ، وهو أكبر الميليشيات فى المدينة حينئذ، بإنهاء وجود السلاح خارج إطار الدولة وضرورة إنهاء المجموعات المسلحة. وعندما طالب أشقاؤهم فى طرابلس بعد صلاة جمعة 15 نوفمبر فى جامع القدس بضرورة تطبيق قرارى المؤتمر الوطنى 27 و53 بشأن إخلاء العاصمة من جميع التشكيلات المسلحة واجهتهم بنادق مجموعة مسلحة أخرى بعد توجههم إلى حى غرغور ليسقط نحو 47 مدنيا، ويصاب 518 آخرون على يد المجموعات المسلحة المسيطرة على زمام أمور الأوضاع الأمنية، فى الوقت الذى كانت تقف فيه بعض أطراف الصراع السياسية وراء بعض هذه المجموعات المؤدلجة والتى فرضت بقعقعة السلاح قانون العزل السياسى فى 2013. إلا أن دخول هذه التشكيلات المسلحة على مختلف مشاربها وأجندتها، فى شئون الحكم تعدى حدود حصولها على امتيازات مالية خارج إطار القانون وتعيين بعض منتسبيها فى وظائف مدنية فى أجهزة الحكومة، لتكون صاحبة قول فصل، معتمدة على جبروت سلاحها، فيمن يحكم العاصمة وعلى أعلى مستويات سدة الحكم!
لم يتوقف سيل المآسى التى تسببت فيها هذه الجماعات، حيث عرفت باعتمادها على ابتزاز وخطف وتعذيب وقتل المدنيين. وقد استمرت هذه الانتهاكات لأرواح ومقدرات الليبيين، وآخرون تواجدوا على الأرض الليبية، طوال السنين الماضية، مع تدفق تقارير دولية كثيرة عن انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان طالت المهاجرين الأجانب، وصلت إلى حد التنديد بوجود مظاهر عبودية للمهاجرين فى ليبيا فى عام 2017. وبعدم حصر إدانة هذه الانتهاكات على تلك التى تخص المهاجرين، التى لطالما تؤكد عليها بعض الأطراف والمنظمات الدولية متناسية الضحايا من الليبيين، خرجت أخيرا المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب بتقرير أشار بالمجمل إلى مقتل 400 ليبى و88 مهاجرا فى عام 2020، بالإضافة إلى 52 ليبيا و16 مهاجرا فى عام 2021، ثم 11 حالة وفاة من ترهونة حيث قتلت أعداد كبيرة من المدنيين فى عام 2019، وأخيرا مقتل 14 مهاجرا مطلع عام 2022. وبحسب هذا التقرير، غالبا ما تكون عمليات القتل خارج نطاق القانون ضد الأشخاص، مسبوقة بعمليات تعذيب. ويعتقد أن العديد من الانتهاكات التى يغطيها هذا التقرير ارتكبت من قبل مجموعات تابعة للدولة أو ميليشيات «كانت مدمجة سابقا فى هياكل إنفاذ القانون، مما يقلل بشكل أكبر من إمكانية الملاحقة القضائية». ذلك أنه بعد دخول حكومة الوفاق الوطنى إلى العاصمة فى 30 مارس 2016، قامت هذه الحكومة بإضفاء طابع الشرعية على هذه المجموعات المسلحة التى كانت تعمل خارج إطار القانون، بضمها كل حسب «تخصصه»، إلى وزارتى الدفاع والداخلية، متحصلة بذلك على قوة أكبر منحتها شرعنة حكومة الوفاق الوطنى لها. إلا أنه يجدر التنويه بأن تسلم السيد فتحى باشاغا لحقيبة وزارة الداخلية فى أكتوبر 2018 كان قد غير طريقة تعامل حكومة الوفاق الوطنى مع هذه الميليشيات، حيث كان وزير داخلية الوفاق قد أعلن مواجهة هذه المجموعات، لتضع الحرب على طرابلس من ناحية، وخلافات دبت بينه وبين رئيس حكومته الذى غلب سلطة بعض هذه الميليشيات على سلطة وزير داخليته، من ناحية أخرى، حدا لإمكانيات حتى بداية هذا النهج المتميز.
• • •
كانت الحكومة الليبية المؤقتة فى اجتماعها الأول مع المبعوث الأممى فى 2014 السيد برناردينو ليون قد طالبت بضرورة أن يكون المسار العسكرى والأمنى متلازما مع المسار السياسى الذى كثيرا ما وقع التركيز عليه وحصر المفاوضات بين أطراف الصراع على الشق السياسى. إلا أن الإرادة الدولية غابت حينها ولم تفلح فى الضغط على الطرف السياسى والعسكرى الذى رفض الانخراط فى أى تفاوض عسكرى، متشبثا بغلبة شوكة قواته على مناطق مهمة فى غرب وجنوب البلاد، بينما كانت مناطق الشرق التى وجود فيها الطرف المقابل تعانى من قبضة وجرائم داعش و«أنصار الشريعة» الإرهابية. صحيح أن اجتماعا أو اثنين قد نظما فى 2016 على يد البعثة الأممية، إلا أنهما افتقرا إلى الجدية لعدم وجود آلية متابعة وجهد متواصل.
عندما بادرت جمهورية مصر العربية إلى سد هذه الثغرة فى التعاطى الدولى مع هذه القضية الجوهرية باحتضان اجتماعات بين ممثلى طرفى الصراع العسكرى لم يحظ هذا الجهد سوى بـ «تثمينه»، بدون دعم واضح له من بعثة الأمم المتحدة. بيد أن الحرب على طرابلس دفعت الأخيرة وعلى يد السيدة استيفانى ويليامز إلى الاهتمام ولأول مرة بالشق العسكرى، ليتوصل طرفا الصراع المسلح إلى اتفاق لوقف إطلاق النار فى جنيف فى 23 أكتوبر 2020 وليتبع هذا الاتفاق عدة اجتماعات تنسيقية هامة بين اللجنة العسكرية المشتركة الممثلة للطرفين المعروفة بلجنة 5+5، أدت إلى تثبيت وقف إطلاق النار وفتح الطريق الساحلى للسماح بتنقل المواطنين والمواطنات بين شرقى وغربى البلاد. وسادت اجتماعات اللجنة روح وطنية عالية، توجت بلقاءات عديدة اتسمت بالإيجابية بين رئيسى أركان الطرفين العسكريين فى غرب وشرق البلاد، واجتماع غير مسبوق فى العاصمة طرابلس فى 28 سبتمبر 2021، بإشراف مباشر من قوات الأفريكوم الأمريكية وحضور قائدها لهذا الاجتماع.
بعد السكوت مطولا على عدم تنفيذ المادة 34 من الاتفاق السياسى الليبى المبرم فى 17 ديسمبر 2015 وأحد ملاحقه الذى خصص للقضية الأمنية، برزت فى الأفق اهتمامات غير مسبوقة من قبل بعض الهيئات والدول الأجنبية بهذه المسألة الهامة، تتعدى مستوى التنديد الإعلامى للخروقات والجرائم التى ترتكبها هذه الميليشيات. فقد شهدت مدينة مونترو السويسرية فى 13 و14 مايو الماضى اجتماعات بين بعض قادة الميليشيات من طرابلس مع من جاءوا من بنغازى كممثلى القيادة العامة للجيش الوطنى الليبى نظمها مركز الحوار الإنسانى فى جنيف، أعقبتها اجتماعات أخرى فى بوزنيقة بالمغرب بعد ذلك بأسبوع. ثم أن بادرت وزارة الخارجية الإسبانية إلى عقد اجتماع شمل رئيسى وأعضاء اللجنة العسكرية المشتركة فى 22 مايو فى مدينة توليدو خصص لتدارس المسألة «الغائبة»، نزع سلاح وتسريح المقاتلين وإعادة اندماجهم، ضمن إطار مشروع إصلاح قطاع الأمن، حيث أن أى نهج يسعى لتوحيد المؤسسة العسكرية، لا بد أن يتضمن تفكيك أى تنظيمات مسلحة مستقلة، حتى وإن ادعت بعضها انضواءها حاليا تحت إشراف الحكومة. ذلك أن الإصلاح المنهجى والفعال لقطاع الأمن يفضى عادة إلى تفكيك الميليشيات وانضمام بعض أفرادها إلى تشكيلات وزارتى الدفاع والداخلية كأفراد، وليس كمجموعات كاملة تقودها نفس العناصر الميليشياوية، فيما يتم دعم آخرين من هذه المجموعات يرغبون فى الانصهار مجددا فى الحياة العامة، كموظفين فى الدولة أو أصحاب مهن حرة أو طلاب علم.
• • •
أحد أهم نتائج مسار برلين وقمته التى عقدت فى 19 يناير 2020 تمثلت فى إدراك الأطراف الدولية بأن موضوع ما يسمى الحل السياسى، والذى اختزل منذ 2015 فى تقاسم السلطة بين فرقاء الأمس، لن يحل الأزمة الليبية المتعددة الجوانب. ومن ثم، توجهت البعثة الأممية إلى استحداث مسارين آخرين إلى جانب المسار السياسى، وهما المساران العسكرى والاقتصادى، فيما ترك ملف المصالحة الوطنية للمجلس الرئاسى الحالى، مع الإعلان عن اضطلاعه بتوحيد المؤسسة العسكرية.
بيد أننا جميعا نعلم أنه وبالرغم من نجاحات اللجنة العسكرية المشتركة والتى أشاد بها الشعب الليبى نفسه، قبل بعض الأطراف الخارجية، فإن معضلات كثيرة تعترض عمل هذه اللجنة، وعلى رأسها خروج القوات الأجنبية والمرتزقة وتوحيد المؤسسة العسكرية وإنهاء وجود التشكيلات المسلحة. إذ إن التركيز الدولى الحالى ينصب على إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية، بعد التوصل إلى قاعدة دستورية تؤطر تنظيم هذه الانتخابات. وحتى وإن كرر المبعوث الأممى الجديد لدى ليبيا، السيد عبدالله باتيلى، الأربعاء 26 أكتوبر الماضى بمناسبة أسبوع نزع السلاح، التزام الأمم المتحدة بتقديم الدعم الفنى للجنة العسكرية المشتركة 5+5 لتسريع تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار، بما فى ذلك وضع تنظيم حيازة السلاح تحت السيطرة الحصرية للدولة، ثم ليعلن بعد مشاركته لاجتماع هذه اللجنة الخميس 27 أكتوبر الماضى، أنه وفقا للبند الرابع من اتفاق وقف إطلاق النار، وافقت اللجنة العسكرية المشتركة على إنشاء لجنة فرعية مكلفة برسم خرائط الجماعات المسلحة، والعمل على انسحاب المرتزقة والمقاتلين الأجانب والقوات الأجنبية. وذلك يعنى بجلاء أن عملا ملموسا سيبدأ فى مجال تحديد عدد وتموضع الجماعات المسلحة، وهى خطوة طيبة فى الاتجاه الصحيح، غير أن الخطوات الهامة التى تليها، وتحديدا تنفيذ إنهاء وجود هذه التشكيلات المسلحة، إلى جانب رحيل القوات الأجنبية والمرتزقة، ستنتظر وصول سلطات أفرزتها انتخابات مقبلة إلى سدة الحكم.
إلا أن الرأى العام فى ليبيا لا تفوته حقيقة واضحة، كوضوح الشمس فى رابعة النهار، أن الانتخابات القادمة، التى ينادى بها الليبيون أولا وقبل الآخرين، لن تكون «حرة» ولا «نزيهة»، مثلما تردد دوما البيانات الدولية والقرارات الأممية، بل إن تأثير السلاح سيكون ظاهرا على الناخبين والناخبات، إن لم تكن على النتائج. وستضطر جموع الليبيين بالقبول بإجراء انتخابات فى ظل أجواء غير آمنة كتلك التى نعرفها هذه الأيام. أما الأطراف الغربية المعنية بالشأن الليبى، فيهمها بالدرجة الأولى وجود سلطة جديدة بعد الانتخابات تطالب برحيل قوات فاغنر الروسية أساسا، فيما تؤكد أطراف دولية أخرى وإقليمية على ضرورة عدم التفريق بين رحيل قوات فاجنر الروسية والقوات التركية والمرتزقة الأجانب بمختلف جنسياتهم. وإزاء هذا الموقف المنطقى وطنيا من وجود جميع القوات الأجنبية بدون تفرقة، نلاحظ إلحاح تركيا على وجودها العسكرى فى البلاد لتأكيد أمر واقع بتوقيع اتفاقيتين جديدتين الثلاثاء 24 أكتوبر مع رئيس حكومة الوحدة الوطنية. كانت الاتفاقية الأولى قد نصت على رفع كفاءة قدرات الطيران الحربى فى ليبيا بالاستعانة بالخبرات التركية فى هذا المجال، كما تضمنت الاتفاقية الثانية بروتوكولات تنفيذية للاتفاقية الأمنية الموقعة من قبل المجلس الرئاسى لحكومة الوفاق الوطنى فى نهاية نوفمبر عام 2019.
• • •
من ثم، يبدو الطريق إلى إنهاء أحد أسباب الأزمة الليبية الجوهرية وعرا، إلا إذا أجريت انتخابات مقبلة لا يتم من خلال إطارها التشريعى إقصاء الأحزاب السياسية، حيث يتم التعويل على الوطنية منها فى تأكيدها على ضرورة إنهاء وجود السلاح فى أيدى مجموعات مسلحة مستقلة، بعد تفكيكها، والوجود العسكرى الأجنبى. بالتالى تتوافر إمكانات اضطلاع وزارتى الدفاع والداخلية بمهامها المنوطة بها، بعيدا عن هيمنة هذه الجماعات على المشهد الأمنى. أما جموع الناخبين والناخبات فهم مدعوون حينها إلى توجيه أصواتهم الانتخابية إلى الأحزاب التى تطالب برحيل جميع القوات الأجنبية على حد سواء، إلى جانب إبعاد التشكيلات المسلحة على مختلف أشكالها عن وجودها ضمن أجهزة الدولة الأمنية. علاوة على الأحزاب السياسية، فإن الآمال فى هذا الجهد الوطنى من أجل إصلاح النظام الأمنى فى البلاد معقودة أيضا على المجتمع المدنى والحراك الشعبى، إذ إنه من الأهمية بمكان أن تعى جميع الأطراف الخارجية المتدخلة فى الشأن الليبى أن الغالبية العظمى من الشعب الليبى ترفض استمرار بطش وهيمنة قوات أجنبية وأخرى داخلية تهدد جميعها الأمن والنظام العام فى البلاد.
صحيح أن زمام أمور صناعة القرار فى ليبيا أصبحت أساسا، وللأسف، فى أيدٍ أجنبية، إلا أن وجود ضغط داخلى من الوطنيين المشكلين لغالبية عظمى لا ترتهن لأطراف خارجية، هى الكفيل الأكبر للخروج بليبيا من قبضة الخارجين عن القانون داخليا، وهيمنة الأجنبى الموجود عسكريا على أراضيها، والمنتهك بذلك لسيادتها.

وزير خارجية ليبيا الأسبق

محمد الهادي الدايري وزير خارجية ليبيا الأسبق
التعليقات