الأحزاب أم الأفراد؟ - محمد الهادي الدايري - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 3:08 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الأحزاب أم الأفراد؟

نشر فى : الأربعاء 9 يونيو 2021 - 8:15 م | آخر تحديث : الأربعاء 9 يونيو 2021 - 8:15 م
أعلن المجلس الأعلى للقضاء فى ليبيا عن فتح باب تسجيل الأحزاب السياسية اعتبارا من الأول من يونيو الجارى. وتاريخ الأحزاب فى ليبيا ملىء بالتقلبات والمفاجآت بدأت فى أعقاب الحرب العالمية الثانية؛ حيث ظهرت فى المشهد العام عدة أحزاب فى غرب البلاد وشرقها انصب اهتمامها فى ذلك الحين على العمل على إيجاد سبل التحرر عقب دحر قوى الحلفاء للمستعمر الإيطالى ودخول البلاد تحت وصاية خارجية. ولم يكن مستغربا أن تتحصل هذه الأحزاب على دعم وزخم كبيرين؛ حيث إن قضية التحرر كانت حينها جامعة لكل الشعب الليبى.
إلا أنه وبمجرد ظفر البلاد باستقلالها فى 24 ديسمبر 1951، بزغت معارضة للحزبية من السلطات الحاكمة المتعاقبة وامتدت على مدى ستين سنة لتنتهى ــ ولو لحين ــ فى 2011 مع حلول انتفاضة فبراير. أوقف العهد الملكى العمل بالأحزاب بعد أحداث شغب أدت إلى مقتل مواطن، كانت قد تخللت أول انتخابات نيابية فى البلاد أجريت فى 19 فبراير 1952. وأُبعد إثر ذلك المناضل الراحل بشير السعداوى رئيس حزب المؤتمر الوطنى، رحمه الله، خارج أرض الوطن فى 22 فبراير 1952 وإيقاف ــ ولمدة سنوات ــ بعض أنصار حزبه. كان مؤيدو الملك إدريس، رحمه الله، قد تحصلوا على 37 مقعدا من مجموع 55، بينما تحصل حزب المؤتمر الوطنى على 8 مقاعد منددا بما أسماه بتزوير نتائج الاقتراع.
وبما أن ليبيا تأثرت كغيرها من الدول العربية بالتيارات السياسية السائدة فى الخمسينيات والستينيات، فقد تأسست خلايا حزبية سرية لأحزاب شهدتها الساحة السياسية العربية. فكان أن تم القبض فى أوائل الستينيات على خلية ليبية سرية للحزب العربى الاشتراكى كان من ضمنها العراقى الراحل سعدون حمادى، رحمه الله، الذى كان مبعدا سياسيا عن العراق ليعمل فى شركة بترول فى طرابلس والذى تقلد فيما بعد عدة مناصب فى بلاده كوزير البترول وللخارجية ورئيس للوزراء وللمجلس الوطنى. كان البعثيون متهمين بقلب النظام السياسى والاقتصادى والاجتماعى فى المملكة الليبية. وتراوحت الأحكام حينها بالسجن ما بين عدة أشهر وسنتين.
وفى عام 1967، تم اكتشاف تنظيم سرى لحركة القوميين العرب والقبض على 106 سياسيين ليبيين، والحكم غيابيا على رأس التنظيم الدكتور الراحل جورج حبش. ذلك أن المد القومى العربى كان هو الغالب آنذاك على المشهد السياسى السرى فى ليبيا. إلا أن ذلك لم يمنع من وجود تنظيمات سرية إسلامية، كالإخوان المسلمين وحزب الدعوة، وجماعات يسارية لم تنظم نفسها فى أطر أحزاب سياسية.
ومن ثم، فإن نظام «الفاتح من سبتمبر» الذى استمر هو الآخر فى منع الأحزاب وسعى من خلال ما سمى بندوة الفكر الثورى فى يونيو 1970 إلى التعرف عن كثب، بطريقة أكثر دقة من ملفات الأجهزة الأمنية للنظام الملكى، على تيارات سياسية سرية لم تظهر بجلاء على السطح. وهو ما سهل الانقضاض على منتسبى هذه التيارات البعثية واليسارية والإسلاموية من خلال «الثورة الثقافية» بعد خطاب «زوارة» الذى ألقاه قائد «الفاتح من سبتمبر» العقيد الراحل معمر القذافى، رحمه الله، فى 15 أبريل 1973؛ حيث تم القبض عليهم والزج بهم فى السجن. واستمر تعقب منتسبى بعض هذه التيارات السياسية وسجنهم فيما سمى بحراك 7 أبريل فى عام 1976 فى جامعتى طرابلس وبنغازى ومن خلال حملات أخرى فيما بعد. لكن ذلك لم يمنع حركات وفصائل المعارضة الليبية فى الخارج من التموضع فى المشهد السياسى مستندة على مرجعيات سياسية، إسلاموية أو قومية، فضلا عن قطاع عريض كان يؤمن بالدولة الديمقراطية المدنية التى تستند على سيادة القانون والتداول السلمى على السلطة.
•••
ثم جاءت انتفاضة 17 فبراير 2011، لتطلق العنان لحرية التعبير عن الرأى، الذى يشمل بالطبع التعبير عن الرأى الجماعى من خلال تنظيمات وأحزاب سياسية. فقد أصدر المجلس الانتقالى فى 24 أبريل 2012 قانون الأحزاب، لكنه منع تأسيسها على أساس دينى أو قبلى أو عرقى. وبالنظر إلى انعدام التجربة الحزبية فى البلاد، فقد قرر نفس المجلس فى قانون الانتخاب بتاريخ 28 يناير 2012 تخصيص 120 مقعدا من مجموع 200 مقعد للبرلمان (المؤتمر الوطنى العام) إلى الأفراد المستقلين، بينما سمح للكيانات السياسية بتقديم مرشحين لشغل الـ 80 مقعدا المتبقية. الأولوية أعطيت إذا للأفراد (المستقلين)، ولم يتمتع كل هؤلاء بـ«الاستقلالية»؛ حيث خرج العديدون من عباءة «الاستقلال» وأفصحوا عن عضويتهم لأحزاب سياسية، بل حتى ترأس أحدهم مجموعة حزبه فى المؤتمر الوطنى! وبعكس دولتى الجوار فى تونس ومصر، لم يتحصل الإخوان المسلمون على الصدارة فى عدد أصوات أول انتخابات برلمانية فى ليبيا فى 12 يوليو 2012، بينما كانت لتحالف القوى الوطنية، الذى مثل التيار المدنى الديمقراطى.
إلا أن الهجوم الشرس على شخص زعيم «تحالف القوى الوطنية» الدكتور الراحل، محمود جبريل، من الإسلامويين «المعتدلين» والمتشددين على حد سواء قبل الانتخابات وبعدها وإقصاء التحالف من تولى زمام السلطة التنفيذية و«تفصيل» قانون العزل السياسى على الدكتور جبريل، أدى إلى فقدان الشعب الليبى الثقة فى العملية الديمقراطية التى لم تحسم الأمور لمن فاز فى انتخابات 2012. ولم تكن هناك أية مفاجأة عندما كانت نسبة المشاركة بـ 17% فقط فى اقتراع انتخابات 25 يونيو 2014 النيابية. ومما زاد الوضع سوءا كان عزوف الناخبة والناخب الليبى عن التوجه لصناديق الاقتراع فى 2014 مما أدى إلى انتخاب «أفراد» فى مجلس النواب بعدد جد قليل من الأصوات.
فقد كانت تجربة المؤتمر الوطنى جد مخيبة لآمال الشعب الليبى، شاهدوا خلالها رئيس وزرائهم تخطفه فى ساعات الصباح الأولى من أوائل أكتوبر 2013 ميليشيات مسلحة وتقتاده إلى مكان مجهول. كان نفس التيار «الثورى» الذى سيطر عليه الإسلامويون ــ مع تحالف قوى جهوية ــ قد لجأ إلى العنف والسلاح للسيطرة وتحقيق غايات سياسية. ومن هنا جاء قرار المؤتمر الوطنى بإجراء انتخابات نيابية فى 2014 على أساس فردى فقط، للحيلولة دون ظفر التيار المدنى الديمقراطى، وخاصة «تحالف القوى الوطنية»، بموقع أفضل وعدد مقاعد أكبر من تلك التى تحصل عليها فى انتخابات 2012، خاصة وأن شعبية التيار الإسلاموى كانت تترنح، وهو ما أكدت عليه بجلاء نتائج انتخابات 25 يونيو 2014.
•••
وبعد سبع سنوات من انتخاب مجلس النواب وحكومة مؤقتة منبثقة عنه وخمس سنوات من عمر حكومة «الوفاق الوطنى»، ثمة أمر لا جدال فيه أن المصالح الشخصية، بعيدا عن أية خطط استراتيجية ترمى إلى إخراج الوطن من المحنة المستفحلة التى يعانى منها، هى التى طغت على الصعيدين التشريعى والتنفيذى. لم تكن السياسة حاضرة فى المشهد العام، بل إنها غابت وتغلبت عليها أجندة ومصالح شخصية اعتمدت على عمليات نهب وسطو استهدفت المال العام.
وإذا كان الرأى العام ما انفك يستهجن مثل هذه الممارسات من غالبية متصدرى السلطتين التشريعية والتنفيذية، فإن الأمر مرده بلا أدنى شك هو لغياب أى مشروع إصلاحى يؤسس لدولة القانون والمؤسسات. ومثل هكذا مشروع لا يتأتى إلا على يد تنظيمات ومكونات سياسية تظل مسئولة أمام الرأى العام، بينما يختفى من المشهد العام بعد انتهاء ولايتهم المتسلطون وناهبو المال العام، وقلة من زملائهم الشرفاء الوطنيين ونظيفى اليد فى المجالين التشريعى والتنفيذى الذين لم يتمكنوا من وضع الأمور فى نصابها لخدمة البلاد والعباد.
والآن، وبعد فتح باب التسجيل للأحزاب والكيانات السياسية، يقع لزاما على الأحزاب المتقدمة للتسجيل أن تقوم بطرح مشاريعها للنهوض بالبلاد من محنتها، سواء تعلق الأمر بالانتخابات النيابية أو الرئاسية، ذلك أن الأمر لا يحتمل أن يستمر الارتجال فى إدارة شئون الدولة والعبث بمقدرات الشعب. لابد أن تكون السياسة بمعناها ومضامينها الحقيقية حاضرة وبقوة لتتغلب على أجندة «الأفراد» التى سادت فى السنوات الماضية.
وهناك أمر آخر لا يقل أهمية عن الدور المنوط بالأحزاب والكيانات السياسية وأجندة ملموسة وفعالة نتوق أن تطرحها على جموع الشعب الليبى؛ فإن منح نسبة كبيرة من مقاعد البرلمان المقبل إلى «الأفراد» و«المستقلين» مثلما حدث فى انتخابات 2012؛ حيث منح 120 مقعدا إلى الأفراد فى مقابل 80 مقعدا إلى الكيانات السياسية، سيكون كارثيا. ذلك أن قانون الانتخاب الذى سيصدره مجلس النواب الحالى بعد إقرار القاعدة الدستورية قد يمنح نسبة معينة من المقاعد لهذه الفئات وهو أمر يدعو للاستغراب، خاصة بعد تجربتنا المريرة مع الترشيحات على أساس فردى فى انتخابات 2014 وانعكاساتها الوخيمة التى شهدناها.
إن غياب الخبرة الحزبية التراكمية فى ليبيا وما تجلبه معها من إثراء للحياة السياسية فى أية دولة لا يشرعن أساسا حصول المستقلين أو «القوائم الفردية» على نسبة كبيرة من المقاعد فى مجلس النواب القادم، لأن دول العالم تكتفى عادة بالسماح للمستقلين للترشح فى كل الدوائر الانتخابية، بدون تخصيص أية نسبة لهم. إن الأولوية هذه المرة تكمن فى تخصيص نسبة مهمة للمرأة التى أثبتت من خلال ملتقى الحوار السياسى الأخير أنها قادرة على وضع الكثير من الأمور فى نصابها وعلى تمثيل الشارع الليبى أفضل تمثيل بإيصال صوته إلى داخل أروقة الملتقى.
لقد علمتنا مسيرة الديمقراطية التى انتهجتها الدول الديمقراطية أن الأحزاب السياسية تعتبر ركنا أساسيا لأية عملية ديمقراطية، إذ إنها تشكل همزة الوصل الحقيقية بين الشعب وحاكميه، لأن تمثيل الشعب قد يأتى من خلال شخوص لهم أجندات ذاتية. كما أن الوقت قد حان لتشرع ليبيا فى اللحاق بركب الديمقراطية التى تتطلب فعلا وقتا طويلا لبلوغ مرحلة النضوج. ولكن لنبدأ هذه المسيرة بطرح الكيانات السياسية لأفكار ورؤى تساعد فى إخراج البلاد من محنتها الخانقة الحالية.
محمد الهادي الدايري وزير خارجية ليبيا الأسبق
التعليقات