يا طيرة طيرى - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 11:04 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

يا طيرة طيرى

نشر فى : الأربعاء 31 يناير 2018 - 9:20 م | آخر تحديث : الأربعاء 31 يناير 2018 - 9:20 م
اجتاحت شبكات التواصل الاجتماعى هذا الأسبوع التعليقات الساخرة من مؤتمر الحوار الوطنى السورى المقام فى مدينة سوتشى الروسية، وللأمانة فالوضع السورى بلغ من العبثية ما يقف أمامه الفرد مشدوها، وقد تكون السخرية هى الطريقة الوحيدة للرد على فداحة التطورات من موت ودمار وانعدام الرؤيا وانسداد الأفق أمام عملية إنقاذ لما تبقى من أرواح وأحلام، متابعة الوضع السورى قد تجلب سخطا بإمكانه أن يقتل.

***

لكن بينما شبكات التواصل تعج بتعليقات السوريين على الأحداث، تفاوض شباب وشابات من حلب وريف دمشق وحمص والقصير وغيرها بدورهم على مسرح فى مكان آخر، نحن فى لبنان، والمكان هو فسحة آمنة أشبه بما يظهر فى قصص الأطفال من منزل صغير يخرج من مدفأته الدخان وسط غابة مظلمة، يبدأ العود بإلقاء كلمة فيرد عليه الدف، ينتظر البزق دوره فى الكلام ويختار أن يلقى مداخلته فى لحظة حضرتها له الدربكة بإيقاعها الجاف. هناك، فى سهل البقاع فى لبنان، اجتمع السوريون ممن ينفتح معهم الأفق كما انشق البحر تحت قدمى النبى موسى: تشق موسيقاهم بحر مخاوفهم ويسطع نور أحلامهم وسط الظلام من حولهم. مجموعة من الشباب والبنات أجبرت الحرب عائلاتهم على الفرار، أشخاص اقتلعهم القصف والرعب من جذورهم فحملوا بعضا من تراب أرضهم معهم وحاولوا غرس أنفسهم فى بلد اللجوء.

***

فى مدرسة الموسيقى فى البقاع تعيش سوريا التى ما زالت فى خاطر الكثيرين. مع رنة العود تعود. مع آلة الأكورديون تبكى. مع نقرة الدف تنادى. تدق على ذاكرتى: «أنا ما زلت هنا» أسمعها تقول. «أنا أمكم الأرض، أنا رائحة التراب فى يوم شتاء ماطر. أنا مدفأة وضعت عليها الجدة قشر البرتقال فملأت رائحته الغرفة. أنا بستان أطعمت فاكهته مدنا بأسرها، أنا شمس المتوسط لحظة عودة الصياد محملا بخيرات البحر».

الجو بارد والظلام غلف المكان فى الخارج. على المسرح رمت الموسيقى شباكها على الحاضرين وسلخت الصالة عن محيطها. أنا أعيش تجربة خارج الجسد، كتلك التى يصفها من حاول الموت اقتلاعه ثم غير رأيه فعاد الشخص وحاول أن يشرح كيف ذهب للحظات ثم عاد.

***

أن تغنى مجموعة شباب «يا طيرة طيرى يا حمامة، وانزلى بدمر والهامة» فى شىء من السحر. دمر والهامة منطقتان تحاوطان دمشق، لكنى أتساءل إن كان هؤلاء الشباب قد زاروها وإن زاروها فهل يتذكرونها؟ أحسب بسرعة متوسط أعمارهم وأنقص منها عدد السنوات التى قضوها فى لبنان فيبدو لى أنه من الصعب أن يتذكروا مناطق ربما عاشوا أو مروا بها حين كانوا أطفالا.

***

تتمايل شابة تجلس فى المقعد أمامى على نغمة الأغنية وتغنى معها. أسألها إن كانت تعرف منطقة الهامة أو زارتها حين كانت فى سوريا فتجيب بالنفى. يا إلهى! ها نحن نعيد قصة صفد ويافا وحيفا وغيرها من المدن ذات الأسماء الراسخة التى لم يزرها أى ممن يستشهدون بها منذ أكثر من سبعين سنة! ها نحن نغنى لمدن بدأت تنزلق إلى عالم افتراضى لا ذاكرة بصرية له عند الكثير ممن يعرفون عن أنفسهم على أنهم سوريون فى بلاد الشتات.

***

«يا طيرة طيرى بوادينا واحكى له ع اللى مجافينا». أنا هناك، فى الوادى. اليوم صيفى حار قرر فيه والدى أن نزور منطقة خضراء فى سوريا معروفة بطبيعتها الخلابة ونسائها الجميلات وموائدها الممدودة. هى منطقة جبال ووديان وقرى منثورة على جانبى طريق ملتف حول الغابات. أم ترانى أنا أيضا بدأت أتخيل القرى بدل أن أتذكرها؟ هل زرت الوديان مع عائلتى أم أننى صنعت لنفسى ذاكرة بصرية مبنية على وصف سمعته ممن أصولهم من هناك؟ لا لا، أنا زرت الجبل والوادى وشربت من ماء النبع وأكلت من فاكهة البساتين هناك.

***

لماذا لم أعد أثق بذاكرتى؟ هل العلاقة بالمكان تحتم، إن أردنا لها أن تستمر، بأن نستمر بزيارته؟ هل الانقطاع يفضى إلى علاقة تصبح افتراضية مع مكان نعيد ترتيبه فى رأسنا ونستمر فى زيارته فى ذاكرتنا؟ هناك تمارين يجب القيام بها بشكل مستمر، تماما كمن يمارس الرياضة للحفاظ على صحته أو لياقته البدنية. التمرين يبدأ بمسح للبيت، بيتى. أماكن الأشياء، أين أضع الجريدة بعد قراءتها؟ أين فناجين القهوة وأين مكان الصينية؟ فى شارع البيت، ما أسماء العائلات التى تسكن البيوت؟ مهلا فأنا لا أذكر اسم الجارة التى تعيش فى الطابق الثانى فى آخر الشارع. هل كان لها طفلان؟ أم أن هذه العائلة انتقلت للسكن فى مكان آخر منذ سنوات مضت؟ أكمل التمرين فأصل إلى الساحة. الشارع العريض يتوسطه صف من شجر النخيل. فعلا؟ نعم هكذا أتذكره. على الطرف الآخر من الساحة امتداد لشارعى. هناك بائع خضار بعد المكان الذى يقف فيه رجال الأمن. أمشى عدة دقائق أخرى فأصل إلى الفرن. ربما لم أصل إليه بعد لكننى أشم رائحة الخبز.

***

«هاتى لى من حبى علامة». ها هى العلامة: فى حين تنهار السياسة فى مشهد ملمحى فى سوريا وسخرى فى سوتشى، أنا هنا فى حقيقة صنعها الشباب والشابات فى البقاع اللبنانى. مع كل نفس آخذه أشعر بالروح تعود إلى، ومع كل نفس ألفظه أشعر بقطعة من البلد تنسحب منى. يا طيرة طيرى بوادينا، واحكى له ع اللى مبكينا.
تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات