النهوض.. أو الزوال بعد حين - سمير العيطة - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 10:29 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

النهوض.. أو الزوال بعد حين

نشر فى : الأحد 31 مارس 2024 - 7:45 م | آخر تحديث : الأحد 31 مارس 2024 - 7:45 م
لم يعُد كثرٌ يتذكّرون أنّ أحد أسباب اندلاع «الثورة السوريّة الكبرى» ضدّ الانتداب الفرنسى كان أدهم خنجر، ابن جبل عامل الذى قاد مقاومة الاحتلال منذ 1920. حاول الخنجر اغتيال الجنرال غورو سنة 1921 بين دمشق والقنيطرة. لكنّ الجنرال ومرافقيْه، الجنرال كاترو وحقى بك العظم، والى دمشق، نجوا من محاولة الاغتيال. وقام الجيش الفرنسى بملاحقة مخططى الأمر: أحمد مريود، الدمشقى وإبراهيم هنانو، الحلبى. التجأ خنجر إلى منزل سلطان باشا الأطرش فى قرية القريّة، حيث هاجمه الفرنسيّون واعتقلوه منه. فثار الأطرش وهاجم القوّات الفرنسيّة التى هرّبته بالطائرة إلى دمشق كى يُحاكم ويعدم سنة 1923.
حينها، لم يكن الشعبان السورى واللبنانيّ ينظران بالحدة المتواجدة اليوم، إلى أن خنجر شيعى والأطرش درزيّ ومريود سنىّ وهنانو كردىّ. كان معظمهم يرون أن القوى العظمى خانت وعودها لهم بدولة مستقلة بعد أن حاربوا معها ضد العثمانيين، الذين هيمن حزب الاتحاد والترقّى على دولتهم ودخلت فى صراعات داخلية عرقية ودينية ومذهبية. وكان وقع الخيانة أكبر بعد «مؤتمرهم السورى العام» الذى وضع فيه أبناء مختلف المدن والمناطق والطوائف، بمن فيهم اليهود، دستورًا حضاريًا، ما زال يُعتبر اليوم أفضل ما أنتجه البلدان بعد ذلك من دساتير وتوافقات.
• • •
التخوّف من الوعود الخارجيّة وألاعيبها عاد من جديد خلال الحرب العالميّة الثانية. استقلالٌ تمّ إعلانه سنة 1941 مقابل المساعدة فى طرد الفرنسيين المتعاونين مع النازية (حكومة فيشى) دون إنجازه، ووطنٌ للصهاينة وحدهم بدل فلسطين تعدديّة. نوديَ حينها بوحدة عربية، خاصة اقتصادية ودفاعية، انتهت إلى «جامعة عربية»، لم توحد يومًا لا الاقتصادات ولا حتى تعريف من هو العدو وكيفية مجابهته. وكلف الأمر كى ترحل القوات الأجنبية اعتقالًا لحكومات منتَخبة وقصفا لدمشق وبرلمانها وشكوى سورية ــ لبنانية مشتركة أمام مجلس الأمن الذى ساهم البلدان فى إنشائه.
ثم أتت صدمة النكبة وتشريد الشعب الفلسطينى، والعدوان الثلاثى على مصر وزخم الهوية العروبية بعد أن فشل العدوان وتحرّرت الجزائر. إلا أن نكسة 1967 لم تهزِم مجرد الجيوش المصرية والسورية والأردنية، بل أيضًا إمكانية التوافق العربى ولو بالحد الأدنى، ومركزية قضية فلسطين وحقوق الشعب الفلسطينى كقضية جامعة وموحدة. وما شهده سوريا ولبنان وشهدته بعدها معظم البلدان العربية، بمن فيهم الشعب الفلسطينى، ليس سوى صراعات بينها وداخل كلّ منها.
كلّ يبحث عن طريقه وحده دون الآخرين، وكلّ يركّز على خصوصيته: تونس أولًا، والمغرب أولًا، ثم مصر أولًا، والأردن أولًا، ولبنان أولًا، هذا فى الوقت الذى أقام فيه الأوروبيون اتحادًا وبرزت تجمعات اقتصادية كبرى فى آسيا.
محقّ من يجهد لتنمية بلده وتقوية اقتصاده ولخلق الرفاهية لأبنائه وبناته. لكنّه لا بد أنه يعرف أن هذه التنمية والاقتصاد والرفاهية لا استدامة لها إذا كان المحيط القريب خراب وفوضى.
وصحيح أن كل بلد عربى شهد تطورات اجتماعية واقتصادية، وخاصة سياسية، خلال عقود طويلة تجعل تحقيق التوافق صعبًا مع جاره. وصحيح أن الانقسام السياسى فى البلدان العربية لم يعُد بين يسار ويمين، وبين سبيل وآخر لمحاولة تحقيق التنمية، بل بين تيارات تتبنى أفكارًا فئوية ومذهبية وإثنية، عادت كما خلال مرض الدولة العثمانية، لتعتمد كلّ منها على دولة خارجية لتحقيق طموحاتها وتتواجه مع «الآخر» الذى شاركها حياتها قرونًا طويلة، داخل حدود دولتها الحديثة وقبل إنشاء جدرانها.
إلا أن هذا كله لا أفق له، سوى كما جرى مع «الرجل المريض»، أى الدولة العثمانية فى نهاية عهدها، الشرذمة والتبعية.. وخيانة طموحات هذا وذاك، وبالخصوص من قِبل من ادعى أنه الساند والداعم. ليس فقط فى البلدان العربية التى أصبحت دولها «هشة» وتفجرت داخليًا، بل لدى الأخرى التى تغض طرفها عما يحدُث فى جاراتها.
• • •
إن منطق الصراعات العالمية الكبرى لا يأبه بالمنطق الفئوى عندما تسنح الفُرص. فكما استغلت دول كبرى وأخرى أقل شأنًا «الربيع العربى» وعدم حكمة القائمين على بلدانه لنشر الفوضى والتصارع بالوكالة، فى ليبيا وسوريا واليمن واليوم فى السودان، تستغل إسرائيل الفرصة لإنهاء القضية الفلسطينية.
ستة أشهر من القتل الإجرامى، رغم تهمة الإبادة الجماعية من قبل محكمة العدل الدولية لإسرائيل والتواطؤ فى هذه الإبادة لمن يدعمها. ولا وقف لإطلاق النار. بل عندما يقر أخيرًا مجلس الأمن بضرورة إيقافه وإيقاف تجويع أبناء وبنات غزة، لا يحدث شىء سوى مزيد من السلاح والذخائر للحرب وضوء أخضر لقيادات «الكيان»، ليس فقط لعملية «مضبوطة« (!) فى رفح، بل للانتقال إلى الهجوم على جنوب لبنان وعلى سوريا.
ليست غزة قضية إسلام سياسى سنى. وليس جنوب لبنان قضية إسلام سياسى شيعى. وليست سوريا قضية صراع مناطق وطوائف. وليست ليبيا قضية صراع فئوى بين شرقها وغربها بملبوسات مختلفة. وليست السودان قضية عشائر ومناطق.. وليست كل هذه الصراعات فقط قضايا إنسانية وضحايا من أطفال ونساء ورجال يقتلون ويجوعون، يشهد العالم معاناتهم كل يوم على شاشات التلفزة.. فى الوقت ذاته التى تثير هذه الشاشات ذاتها النعرات الفئوية حسب مصالح من هم وراءها، وتستقبل «خبراء» إسرائيليين ينثرون «سمومهم» أن الفلسطينيين هم المعتدون!
ولن تحلّ هذه القضايا جميعها لا فى أروقة الأمم المتحدة ولا عبر اللقاءات الدبلوماسيّة. والعبرة فى قادة إسرائيل الذين لم يعودوا يهتمّون بالعزلة الشعبيّة العالمية التى ترتّبت على إجرامهم، رغم الجهود الحثيثة التى يبذلونها فى تهمة «الآخرين» بأنّهم مجرمون ومعادون للساميّة وفى تنشيط جميع «مجموعات الضغط» فى أرجاء الدنيا لتسكيت الأفواه وقلب الحقائق. إنهم يستغلّون الفرصة.. لقلب الطاولة فى المنطقة وشرذمة المحيط ولتوسيع الاستيطان. عسى أن يتناسى الجميع بعد خمس أو عشر سنوات، ما حدث.. وما سيحدث. وتعود سيادة «الواقع».. ومنطق المصالح.
• • •
كل الصراعات التى تشهدها فلسطين وتشهدها دول عربية أخرى تشكل مخاض تحولات المنطقة برمتها.. لن يسلم من جحيمها أحد. إنها علامات «مرض» لا شفاء منه إلا عبر الخروج من المنطق الضيق، الفئوى والمذهبى.. و«الخصوصى».
إما أن تنهض المنطقة برمتها سوية للتنمية والحريات والتآخى والسلام.. كما حَلِمت يومًا.. أو تبقى عقودًا وقرونًا.. أرض حرب وصراعات «الآخرين».
سمير العيطة رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية ــ ورئيس منتدى الاقتصاديين العرب
التعليقات