يبدأ خلال أيام موسم الحصاد المحلي من القمح، والذي ارتفعت الآمال الحكومية عليه طوال الشهرين المنصرمين لتأمين الاحتياجات المحلية، التي تهددت كثيرًا مع بدء الأزمة الروسية الأوكرانية، التي أنتجت ارتفاعا غير مسبوق في الأسعار العالمية للقمح.
في العام الماضي كانت تبلغ حجم الواردات المحلية من القمح 3.5 مليون طن، بينما تستهدف الحكومة هذا العام من القمح المحلي 6 مليون طن، بزيادة قدرها 70% عن العام الماضي. مع الأخذ في الاعتبار أن الفلاح المصري " المُنتِج"، يُخرج لنا أحد أفضل محاصيل القمح في العالم من حيث نسبة البروتين المرتفعة عن 10% ونسبة الرطوبة المنخفضة عن 13%، والتي تضاهي مواصفات القمح الأمريكي.
و بادرت الحكومة منذ أشهر بإعلان سعر شراء أردب القمح ل 800 - 820 جنيه حسب نقاء القمح بزيادة 100 جنيه عن العام الماضي،- الأردب يساوي 150 كيلو، والطن يساوي 6.66 أردب -. لكن مؤخرًا قررت رفع هذه الأسعار نتيجة ارتفاع أسعار القمح عالميًا ولتحفيز الفلاحين على توريده للحكومة بدلًا من تجار القطاع الخاص، حيث أعلنت الحكومة زيادة سعر توريد الأردب إلى ( 865 - 885 ) جنيه بحسب جودة القمح.
ولمحاولة الحصول على الحصة المستهدفة، أصدر وزير التموين قرارًا يوم 16 مارس، يلزم جميع منتجي محصول القمح بالبيع لجهات التسويق الحكومية، ما لا يقل عن 12 أردب عالي الجودة لكل فدان، كما سيتم منع المزارعين من بيع الجزء المتبقي من محاصيلهم لمشترين آخرين، أو نقل الحبوب دون ترخيص من الوزارة، وأكد الوزير على أن الوزارة لديها كشف كامل بالحيازات الزراعية وأنها تتابع كل حبة قمح مزروعة داخل مصر.
سياسة إجبار الفلاحين على توريد القمح بالأسعار المعلنة هو أمر يحتاج للتوقف وإعادة النقاش، فهذه السياسة التي عبر عنها وزير التموين في تصريحاته الإعلامية التي تضمنت الإعلان عن إعادة تفعيل العقوبات الخاصة بقانون التموين رقم 95 لعام 1945، والتي تبدأ بمصادرة الكميات المضبوطة، مرورًا بالحرمان من دعم السماد وفرض الغرامات المالية وقد تصل للحبس من سنة وحتى 5 سنوات، وزاد في تصريحاته بأن الدولة خصصت 36 مليار جنيه لشراء القمح المحلي.
لكن القواعد الاقتصادية دائمًا ما تؤكد أن وجود تسعيرة جبرية لأي سلعة كانت سيدفع لامحالة لخلق سوق سوداء في نطاق محلي يصل لالاف القرى، وهو ما يحتاج لآليات شديدة التكلفة في ضبط ومتابعة سوق سوداء بهذا الحجم الجغرافي الممتد، فهل ستتمكن الحكومة من الرقابة بالفعل على كل حبة قمح كما قال الوزير ؟ وهل هذه التصريحات التي تخيف الفلاحين وتدفع جزء ليس بالقليل لمحاولة التهرب وإخفاء كميات من محصول القمح، ستؤتي ثمارها في تحقيق الأمن الغذائي والوصول للاحتياطي المطلوب ؟ أم أنها قد ينتج عنها ما لايحمد عقباه من قلاقل أو غضب نتيجة محاولة فرض عقوبات بهذا الشكل في نطاق جغرافي واسع داخل الريف ؟
هل يستحق الفلاح المصري الذي يؤمن لنا احتياجاتنا الغذائية هذا التحفيز السلبي ؟ أم أن هناك طريقة أكثر جدوى لتشجيعه ودعمه لتلبية احتياجاتنا من القمح المحلي هذا العام وفي الأعوام المقبلة التي ستتكرر فيها الأزمات لا محالة ؟
يبلغ حاليًا سعر طن القمح المستورد 370 دولار للجودة الأقل، بينما يتجاوز سعر القمح الأمريكي حاجز الـ12 دولار للبوشل، أي حوالي 480 دولار للطن، وبالتالي نحن نتحدث عن تقييم للأسعار العالمية للقمح يبدأ من 5920 جنيه، ويصل لـ 7680 جنيه، بافتراض ثبات سعر الدولار عند 16 جنيه مصري فقط.
وبالتالي إذا كانت هذه متوسطات الأسعار للقمح المستورد والذي لا تستوي فيه الجودة بالقمح المصري المنتج محليًا، فلماذا يتوقف السعر الحكومي عند حاجز ال 885 جنيه للأردب بما يعني 5841 جنيه للطن ؟ وما الدافع إذًا أمام الفلاح ليسارع بتوريد القمح للحكومة وفقًا لهذه الأسعار، مقابل توريده للقطاع الخاص بشكل سيخلق سوقًا سوداء، أو تخزين كميات منه لاستخدامها كعلف للحيوانات كما يفعل الفلاحين بشكل مستمر، فهل هناك من ينتبه لهذا الأمر ويدرس سيناريوهاته بشكل دقيق ؟
يحتاج الفلاحون للنظر إليهم ليس فقط بعدسة الاقتصاد، ولكن أيضًا بالنظر والإدراك للأبعاد الاجتماعية في قضاياهم. فزراعة القمح هي أحد أكثر الزراعات تكلفة على الفلاحين ولاسيما أصحاب الحيازات الصغيرة، بسبب استمرار زراعته لمدة تتجاوز الـ 5 أشهر، وهي بحساب تكلفة الفرصة البديلة يكون القمح أقل جدوى وربح للفلاح مقابل زراعة محاصيل أخرى من الخضروات.
فضلًا عن أسباب أخرى تتمثل في ارتفاع تكلفة الأسمدة التي تصل لسعر 375 جنيه للشيكارة الواحدة، والتي لاتقدم الحكومة منها سوى 5 شكائر فقط مدعمة بسعر أقل ب 100 جنيه من سعر السوق، مما يزيد من تكلفة مدخلات الإنتاج لزراعة القمح.
وبالتالي حينما تقرر الحكومة أن يكون سعر التوريد غير عادل أو منصف للفلاح، ويقل بكثير عن السعر العالمي فهو أمر شديد الإحباط لربع القوى العاملة في مصر، خاصة وأن مقدار الزيادة المطلوبة حتى نصل للحد الأدنى من تغطية تكلفة زراعة القمح هي 215 جنيه، ليصل سعر الأردب لـ 1100 جنيه وبالتالي يتحفز الفلاح بالفعل لتوريد كل ما في حيازته من قمح للاستفادة بهذه الزيادة الضئيلة والبسيطة.
خاصة إذا فطنت الحكومة لأهمية سرعة صرف مستحقات المزارعين فور توريد القمح للشون والصوامع الحكومية، وإنشاء نقاط جمع عديدة قريبة من الأراضي الزراعية بمختلف المحافظات لسرعة جمع القمح من الفلاحين، وخفض تكلفة النقل والتوريد.
الزيادة التي تقدر بـ 215 جنيه ستبلغ تكلفتها على الموازنة العامة حوالي 8.5 مليار جنيه في حال شراء 6 مليون طن، صحيح هو رقم ليس بالقليل لكنه ليس كارثة أمام موازنة تتخطى الـ 2 تريليون جنيه مصري، وستتسبب في إنقاذ موسم حصاد القمح بتأمين الاحتياطي بشكل كامل من هذه السلعة الاستراتيجية.
ومن زاوية أخرى فإن هذا المبلغ سيوفر عناء ملاحقة السوق السوداء التي ستنشأ أثناء فترة الحصاد والتوريد، وبالتالي لن تحقق الحكومة مجرد الفائدة الاقتصادية من شراء القمح المحلي بالجنيه بأسعار أقل من السعر العالمي من العملة الأجنبية وفقط، بل ستحقق أمن اجتماعي واسع بعدم حدوث أي أزمات في الريف نحن في أمس الحاجة لغيابها.
فضلًا عن أن الموازنة الجديدة التي من المتوقع أن تزيد فيها حزمة الحماية الاجتماعية بسبب الأزمات الاقتصادية الراهنة، يعتبر هذا النوع من دعم الفلاحين ولاسيما الصغار منهم، في صلب حزمة الحماية الاجتماعية المطلوبة داخل الريف المصري والذي ليس سرًا أن معدلات الفقر فيه أكبر بكثير من معدلات الفقر داخل المدن، و بالتالي هذا النوع من الإنفاق الاجتماعي له ضرورته ووجاهته اقتصاديًا واجتماعيًا وأمنيًا، ولا يمكن اعتباره هدرًا للموارد بل هو الطريق لاستعادة ثقة الفلاحين في الحكومة والدولة، وهو أمر مطلوب بشدة.
حتى لا ننظر تحت أقدامنا إذا سلمنا بأن هذه الطريقة ستنجح في تأمين الاحتياطي المطلوب من القمح هذا العام، فهل نضمن أن الفلاحين سيزرعون القمح بهذه الكميات في العام المقبل إذا تم الأمر بهذه الطريقة ؟ وهل هذا النمط من الإجراءات يراعي استدامة هذا المحصول الاستراتيجي في السنوات المقبلة ؟ أم يراهن على النهاية السريعة للحرب الروسية الأوكرانية ؟ وهل تضع الحكومة في حسبانها ما يحدث من تغيرات مناخية أضرت بإنتاجية العديد من المحاصيل في دول زراعية كبرى مثل الهند وجنوب أفريقيا والأرجنتين، وإمكانية تطور هذه التغيرات مستقبلًا وما تمثله من تآكل للمعروض عالميًا من المحاصيل الزراعية ؟ فعلى المدى الطويل ومع استمرار النمط الحالي للتغيرات المناخية ستصعب شروط الاستيراد وتزداد تعقيدًا وستدفع العديد من الدول لإعادة النظر في استراتيجياتها لتحقيق الأمن الغذائي، وبالتالي ما نطلبه فقط أن لا ننظر تحت أقدامنا بل نتحوط ضد مستقبل لا نأمن نتائجه.
* باحث سياسات عامة ودراسات التنمية، عضو تنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين.