فاز أمس الإثنين عالم الوراثة السويدي "سفانتي بابو- Svante Pääbo"، بجائزة نوبل في الطب وعلم وظائف الأعضاء؛ لاكتشافه الاستثنائي الذي أثبت من خلاله أن البشر في زمننا الحالي يتشاركون الحمض النووي لأسلافهم من النياندرتال والدينيسوفان.
واستطاع سفانتي، الذي يبلغ من العمر 67 عامًا، تحليل تسلسل جين الإنسان البدائي، وتأسيس علم جينوم أشباه البشر المنقرضة، وهو العلم الذي قاد لثورة في أبحاث علم التطور، فوفقًا لاكتشافات سافانتي تحدد زمن انتقال الجينات من أشباه البشر المنقرضين من نوع نياندرتال، إلى الإنسان العاقل، وهو ما تم منذ أكثر من 70 ألف عامًا تقريبًا.
وتواصلت «الشروق» مع بلال سالم المعيد بكلية العلوم في جامعة بنها، والباحث المصري في مركز جامعة المنصورة للحفريات الفقارية، والمؤلف الرئيس للدراسة التي اكتشفت حفرية ديناصور هابيل مؤخرًا، ليشرح لنا ما هو إنجاز بابو الذي استحق عليه الفوز بجائزة نوبل، وما هي فائدته للبشرية.
أضاف للعلم العديد من الاكتشافات
وأكد سالم أن سفانتي بابو من أشهر علماء الأنثروبولوجي في التاريخ، مشير إلى أنه عالم وراثة سويدي تخصص في علم الوراثة التطوري، وأتى نبوغه من تأسيسه لعلم قائم بذاته وهو علم الوراثة القديم، وهو المعني بدراسة الحمض النووي للحفريات، موضحًا أن بابو كرس سنوات طويلة من حياته العملية في محاولة اكتشاف الجينوم الخاص بالنياندرتال، وهو النوع الأقرب للإنسان.
وعن سبب فوز بابو بجائزة نوبل عن اختراع لقاح فيروس كورونا، الذي توقع الكثيرين أن مخترعيه سيقتنصون الجائزة بعدما أنقذوا ملايين الأرواح، فقال سالم: "جائزة نوبل تعطى للعمل الذي بذل فيه مجهودًا كبيرًا على مدار سنوات طويلة، وتكون فكرة هذا العمل خارجة عن المألوف، فيكون الفائز اخترع شيئا جديدًا بتقنية جديدة، وواجه صعوبات ثم اختراع المزيد من الأشياء ليتخطاها، وبابو فعل كل ذلك خلال مسيرته العملية".
وأضاف: "دراسة جينوم من حفريات قديمة كان شبه مستحيل، وهذا ما قاله بابو بنفسه في بداية الألفينات عندما أعلن نيته عن دراسة جينوم من حفريات قديمة، فهو وصفه مشروعه الشخصي بالمهمة المستحيلة، ولذلك عندما أعلنت جائزة نوبل عن فوزه بالجائزة، ذكرت تهنئة للعالم الذي حقق المستحيل، فهو اخترع تقنية جديدة لدراسة جينوم الكائنات المنقرضة، مما أسس لعلم جديد".
وربما يكون إنجاز بابو صعبًا بعض الشيء لغير المتخصصين في متابعة أخبار الحفريات ونظرية التطور، ولذلك شرح سالم للشروق إنجاز بابو تفصيليًا، موضحًا أن هذا الإنجاز يصب في إطار تطور الكائنات الحية، وهي دراسة ومركبة لأنها تشمل في طياتها أكثر من علم، فكل منهم يكشف مرحلة تطورية معينة، فلا يمكن الاستغناء عن واحد منهم، لأنهم سويًا يعطون صورة متكاملة عن حياة جميع الكائنات الحية التي عاشت على سطح الأرض منذ بداية خلقها وحتى الآن.
وأوضح سالم أن هذه العلوم هي علم الحفريات المختص بدراسة حياة الكائنات التي عاشت على سطح الأرض في الماضي لمدة قد تصل إلى ملايين السنين، وهو العلم المتخصص به شخصيًا، بجانب علم البيولوجيا الجزيئية المتخصص به بابو، والذي يدرس الحمض النووي للكائنات الحديثة والقديمة لعمل ساعة بيولوجية تتنبأ بعمر الكائنات الحية على سطح الأرض، ومتى عاشت كائنات معينة مع بعضها البعض، ومتى انفصلوا عن بعض، لتسجيل كل المعلومات في السجل التطوري للبشرية، بالإضافة إلى علم التشريح المقارن.
عائلة الثدييات وأنواع البشر
وللتحدث أكثر عن إنجاز بابو، شرح سالم أن الأبحاث العلمية تؤكد وجود عائلة كبيرة من الثدييات تسمى القردة العليا، أو Great Apes، وهي تضم أجناس عديدة منها الجنس البشري الذي يطلق عليه هومو، وهو جنس ينقسم إلى أكثر من نوع، منها الهوموسيبيان أو الإنسان العاقل، وينقسم إلى هوموسيبيان أدالتو وهو الإنسان البدائي، وهوموسيبيان سيبيان وهذا النوع الذي يندرج الإنسان البشري المعاصر منه.
وأكدت الأبحاث أن أقدم حفرية للإنسان العاقل كانت من 300 ألف عام في أفريقيا، ثم هاجر هذا الإنسان إلى أوروبا وآسيا عن طريق شبه جزيرة سيناء منذ 70 ألف عام، ولكن كان هناك نوع آخر من الإنسان يعيش بالفعل في أوروبا وآسيا منهم أشباه البشر نياندرتال في أوروبا، والدينيسوفان في قارة آسيا، فاختلط معهم إنسان أفريقيا وتزاوجوا، فحدث بينهم توارث جيني، وهو موجود حتى الآن بين البشر في أوروبا وآسيا.
وقال سالم، لـ "الشروق": كان للعلماء أسئلة كثيرة، فما المعلومات المتاحة عن النياندرتال، ووفقًا للحفريات فهو كان أقدم من الإنسان العاقل، فهل حدث بينهما انجذاب وتزاوج؟ فقبل إنجاز بابو لم نكن نعلم ما هي الحقيقية مؤكدة، وكان أمام العلماء حلًا واحدًا للإجابة على جميع أسئلتهم، وهو الحصول على جينوم من البشر الحاليين، وهذا متاح بعدما استطاع العلماء وضع تسلسل وبنك كامل للجيون البشري في عام 2005، ولكن كان يتبقى الحصول على جينوم النياندرتال، وكان الحصول عليه مستحيلًا لأنه حفريات، ومن المستحيل الحصول على الحمض النووري من الحفرية، وهنا جاء دور بابو الهام.
وبدأ بابو عمله في المهمة المستحيلة منذ حقبة التسعينات، فاستخلاص الحمض النووي من حفرية النياندرتال كان صعبًا لأن الحمض النووي لا يظل متصلًا بعد الوفاة، فهو ينكسر وتضيع المادة الوراثية بسبب الحرارة والدفن والنشاط الميكروبي الذي يختلط مع الحمض النووي الحقيقي للجثة، فاقترح بابو وقتها عدم دراسة الحمض النووي الكامل الموجود في العظام، ودراسة المايتوكونداريا الموجودة بالخلية، فهي تحمل جزء بسيطا من الحمض النووي الذي يمكن دراسته.
إنجاز المهمة المستحيلة
استطاع بابو بالفعل استخلاص الحمض النووي من الخلية، ولكن تبقى أن يستخرج بابو الحمض النووي من العظام، وهو ما درسه لمدة تزيد عن العشر سنوات، حتى استطاع في عام 2010 اختراع طريقة جديدة، وهي إحداث ثقوب في عظام الحفرية، ثم استخراج بودرة بحجم حبة الدواء لدراستها، ثم فصل بابو البكتيريا الملوثة عن الحمض النووي الحقيقي، وبعد الحصول عليه أخيرًا، أعاد اتصاله بعد تكسره بفعل عوامل الزمن، وهي عملية وصفها سالم بالعملية شديدة التعقد.
وقال سالم: "بعد كل هذه الجهود المضنية، أثبت بابو أن جينوم النياندرتال شبيه بالإنسان العاقل أي أنهم بالفعل تزاوجوا، عندما هاجر الإنسان العاقل منذ 40 ألف سنة من أفريقيا إلى أوروبا، مثبت بالأرقام، فيوجد جينوم النياندرتال بنسبة من 1 إلى 4% في الجينوم الخاص بسكان أوروبا، ولم يكن لينتقل هذه النسبة الكبيرة من الحمض النووي في جزء من البشر إلا عن طريق التكاثر".
وعن تواجد نفس الجينوم لدى سكان أفريقيا، نفى سالم وجوده لأن النياندرتال لم يذهب إلى أفريقيا لكي ينتقل الجينوم الخاص به إليها، بل الإنسان العاقل هو من سافر إلى هناك.
ولم تتوقف إنجازات بابو عند هذا الاكتشاف العظيم، بل اكتشف بابو نوعًا جديدًا من الهومو أي نوعًا جديدًا من الجنس البشري كان يعيش معنا منذ آلاف السنين وهو نوع الهومو دينيسوفان، واكتشفه بابو من خلال عثوره على عقلة إصبع بكهف بسيبيريا، قام بدراستها ليعلن عن انضمام نوع الدينيسوفان لسجل البشرية.
وأثبت اكتشاف بابو لنوع الدينيسوفان وجودهم قبل الإنسان العاقل في آسيا، تمامًا كما حدث مع النياندرتال، ووجد أن جينيوم إنسان الدينيسوفان موجود بنسبة 6% في جينوم سكان آسيا، مما يعني أنه تزاوج مع الإنسان العاقل المهاجر من أفريقيا.
أين ذهبت هذه الأنواع الأخرى من البشر؟ سؤال ملح أجاب عليه سالم، قائلًا: بالتأكيد تجول أشباه البشر حول العالم، وربما جاءوا إلى أفريقيا ولكننا لا نستطيع استخلاص جينوم لهم في قارة إفريقيا بسبب ارتفاع درجات الحرارة التي تؤدي إلى تكسير الحمض النووي بشكل أكبر في الحفريات من المناطق الأوروربية ذات الحرارة المنخفضة التي احتفظت بالحمض النووي لأشباه البشر على مدار مئات السنين.
العلماء يعملون على شجرة الحياة
وأضاف: النظرية السائدة حول الآن عن انقراض أشباه البشر تقول إنهم انقرضوا بعد استحواذ الإنسان العاقل على البيئة التي كانوا يعيشون فيها، فهو عاش معهم وتزاوج منهم وهذا مثبتًا بالدليل، ولكن الاحتمال الأكبر هو أنهم لم يستطيعوا منافسة الإنسان العاقل في الحصول على موارد الحياة، فتعرضوا للانقراض.
وعن تأثير عمل بابو في المجال العلمي فأوضح سالم أن بابو يستخدم المايكروبايولوجي في أبحاثه لأنه يدرس حفريات عمرها أكثر من 1000 عام، أي حفريات ما زالت محتفظة بحمضها النووي، أما علم الحفريات المتخصص بها سالم فهو يدرس حفريات لديناصورات تواجدت على سطح كوكب الأرض منذ أكثر من 66 مليون عامًا، فيقول سالم: "نحن نعمل على شجرة الحياة، علماء الحفريات وأنا منهم يعملون في جذر الشجرة".
وعن أهمية عمل بابو في الحياة العملية اليومية للبشر، أكد سالم أن تأثير أبحاث بابو على البشرية عظيم، قائلًا: "عندما ندرس الجينوم البشري ونقارن بينه وبين جينوم أشباه البشر، سنحدد نقاط الضعف والخلل في الجينوم البشري، وبالتالي سنحدد الأماكن التي تسمح بتوارث الأمراض، وما يطمح إليه العلم هو تصحيح الجينوم البشري في المستقبل، لنوقف استقبال الإنسان لأي أمراض معدية ومزمنة ووراثية".