«ما تاريخنا الفكري الحديث والمعاصر إلا سلسلة من الجهود التي بذلت من أجل المطالبة بالحريات، كما وكيفًا؛ فكلما تحقق للناس جانب منها، سعى قادة الفكر إلى جانب آخر، وبقدر أكبر مما ظفر به المواطنون».. بهذه الكلمات يستهل المفكر الراحل زكي نجيب محمود، الذي تحل اليوم ذكرى رحيله، كتابه «عن الحرية أتحدث»، الصادر عن دار الشروق، ضمن مجموعة مؤلفاته.
الكتاب، الممتد عبر 30 فصلًا، يتمحور حول سؤال واحد: «ما الذي ينقصنا من أجل حياة حرة بمعناها الأعمق؟». ومن خلاله يوضح المؤلف مفهوم الحرية، وسبل تحقيقها، محذرًا من الانخداع ببريق المجتمعات التي ترفع شعارات الحرية بينما تمارس القهر بأشكال غير مباشرة، قد تكون أشد وطأة من القهر المادي.
ويتناول الكتاب مجموعة من المفاهيم التي ما تزال تفرض حضورها حتى اليوم، مثل: «العلمانية، الهوية المصرية، حرية التفكير، الثقافة العربية، والخوف من المجهول»، كما يطرح تساؤلات حول العلاقة بين الشريعة الإسلامية والديمقراطية كنظام حكم.
ويرى زكي نجيب محمود أن «القضية الأساسية» تكمن في مقومات البناء الثقافي الجديد، والذي لا يتحقق إلا عبر معادلة متوازنة: التمسك بتاريخ الأمة وتراثها الفكري من جانب، والوعي بالحاضر بما يحمله من علوم وفنون ونظم حديثة من جانب آخر.
ويفسر الفيلسوف الكبير الحرية في معناها الأوسع، قائلًا: «ليست الحرية أن نهتف في المظاهرات ثم نأوي إلى مخادعنا لنغط في النوم؛ الإنسان الحر يعرف ثم يتصرف على هدى معرفته، أما الإنسان غير الحر فلا يعرف ويقف أمام وقائع الحياة العملية في ذهول تائهًا ضل الطريق». فجوهر الحرية، في رأيه، يقوم على «المسؤولية والفكر والإرادة»، حيث لا يصبح المرء حرًا إلا إذا اضطلع بعمل يؤديه بإتقان ومعرفة.
وخلال صفحات الكتاب يضرب زكي نجيب محمود، عدة أمثلة لتوضيح رؤيته؛ فيرى أن حرية الطبيب أن يعرف طريق شفاء مريضه، وحرية القاضي في أن يحيط بمسالك القانون ليحكم بالعدل، وهكذا تمتد الحرية لتشمل كل ميدان من ميادين العمل، وبهذا المعنى تصبح الحرية فعل معرفة وإرادة، لا مجرد شعار أو هتاف.
ومن خلال الكتاب، يقدم زكي نجيب محمود محاولة جادة لتشخيص ما نفتقده من أجل حياة حرة، مبرزًا أن منظومة القيم هي جزء أصيل من الطريق نحو الحرية، وليست شيئًا على هامشها.
جدير بالذكر أن زكي نجيب محمود (1905–1993)، أحد أبرز فلاسفة العرب في القرن العشرين، وأستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة، ترك إرثًا واسعًا من المؤلفات، منها: «تجديد في الفكر العربي»، «قصة نفس»، «قصة عقل»، «المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري»، و«ثقافتنا في مواجهة العصر».
وقد حصل خلال مسيرته على عدد من الجوائز المرموقة، بينها جائزة التفوق الأدبي، وجائزة الدولة التشجيعية في الفلسفة، وجائزة الدولة التقديرية في الأدب (1975)، إضافة إلى جائزة الجامعة العربية للثقافة العربية من تونس، ودرجة الدكتوراه الفخرية من الجامعة الأمريكية بالقاهرة.