رغم انتشار وتواجد الروايات، لا يمكننا بأي شكل من الأشكال إغفال أهمية القصة القصيرة؛ فهي ليست مجرد ومضة أو تكثيف، بل هي من أهم الأنواع الأدبية، كما أن بها نوعا من الحرفية يحتاج إلى المتمرسين.
وفي ظل ذلك الانتشار للرواية ورواجها تبرز بعض الأصوات القصصية التي في أحيان كثيرة تنبع من أقلام تمارس الرواية، وهو تأكيد أن الأدب به الكثير من الأنواع، والتي لا تنفصل بأي حال من الأحوال عن أنفسها.
هنا تضحي المجموعة القصصية «رنين هاتف لا يسمعه أبي» للكاتبة والروائية سلوان البري، والصادرة في بداية العام عن دار المحرر، كقصص قصيرة فريدة من نوعها على مستويات كثيرة.
في تسع قصص قصيرة تذهب بنا الكاتبة إلى عالم النساء، مفتشة عن جروحهن وآلامهن بإحساس مرهف، الصوت النسائي هو المسيطر والأكثر حضورا على كل أجواء المجموعة.
تأخذنا الكاتبة في رحلة مع مجموعة من النساء المختلفات في الأشكال والأعمار، وربما حتى القصص، ولكنهن بشكل ما يتشابهن في فكرة الوحدة والفقد، والبحث عن الذات.
نمر على مراحلهن العمرية المختلفة عبر شخصيات الطفلة، الفتاة، والسيدة، وكأنها تشير بسلاسة إلى امتداد الجروح على مدار العمر، حيث لا يهمها المكان بشكل كبير، فقط تشير إليه من بعيد في رسالة خفية إلى أن المكان لا يفرق حيث الألم واحد.
منذ بداية المجموعة تماما نرى ذلك التصدير بالإهداء إلى المرأة الغزاوية المقاومة، وأيضا تهدي الكاتبة القصص لكل طفلة، فتاة، وسيدة، وهذا ما يؤكد بشكل أن هذا نص نسوي بدرجة ما يريد الانتصار لنساء على مختلف أصواتهن أو جروحهن.
القصة الأولى في المجموعة "رحلة بحث السيدة (ميم)" أجوائها كلها تضعنا في خضم الوحدة والفقد بشكل مباشر دون مقدمات، تلك الفتاة التي تقابل نسختها الأصغر منها في حالة تتداخل فيها الأحلام أو الهلوسة لتمتزج بالواقع، في محاولة تعزية تلك الفتاة الحزينة التي لا تعلم لما حتى سميت بحرف واحد.
قصة أخرى بعنوان "حرب بلا نهاية" هي رمزية أكبر من كونها مجرد قصة لطفلة أمام النافذة، يحكي لها والدها عن تلك النافذة في طفولته هو الآخر، ولكنها تتجاوز ذلك إلى فضاء أوسع، هي قصة عن الحرب والصراع الذي نعيشه ربما يمكننا أن نفهم أنها عن عدو نعيش بجواره يقتل المدنيين الآن، وقتلهم فيما مضى؛ لأنه عدو خسيس.
هذا بالإضافة إلى التلميح بأن الحرب مع هذا العدو لم تنتهي، وأننا لسنا دعاة حرب، لكننا نحارب وقتما يفرض علينا القتال، عكسه هو الذي يختبئ كي يضرب الآمنين.
القصة التي تحمل المجموعة اسمها "رنين هاتف لا يسمعه أبي" هي تعبير صادق وقاسي في آن واحد عن الفقد والانتظار، وعن الألم المكتوم، وعن الغياب الذي لا يمكن أن تتم مداواته؛ إنها قصة عن الانسحاق تحت وطئة الوحدة الخانقة.
اللغة التي استخدمتها الكاتبة طوال القصص هي لغة شديدة الرهافة، والشاعرية، والشعرية في مزيج صنع من السرد ما هو أشبه بالقصيدة النثرية في بعض الأحيان، بالإضافة للمجازات التي أضافت صور حسية بديعة وقاسية في ثنائية كتابية جميلة، ومؤلمة، وأيضا شديدة الصدق.
لا يمكننا الحديث عن تلك المجموعة القصصية بوصفها مجموعة قصص تقليدية؛ فهي غير ذلك، حيث أنها تكسر الإطار التقليدي للقصص القصيرة المتعارف إليه؛ لتشكل صورة جديدة أكثر تحررا لفن القصة بتكثيف عالي، وبأدوات سردية تمكنت منها الكاتبة.
اختارت الكاتبة أن تسرد القصص بالراوي العليم، مع بعض الحوارات المقتضبة، ولكن اللمسة الحميمية القائمة في السرد يمكن الشعور بها، حيث تتبنى الراوية وجهة نظر أبطالها؛ لتضحي في النهاية راوي ملاصق لأبطال القصص.
في النهاية يمكننا القول بأن الكاتبة سلوان البري استطاعت توظيف اللغة المناسبة، وطرق السرد المرنة؛ لكي تصنع مجموعة من القصص القصيرة الفلسفية، التي تناقش وحدة المرأة وعزلتها، والفقد في حياتها؛ لتكون بمثابة صرخة تعبير عن كل النساء في هذا العالم.