رحلة داخل أطول قطار في العالم - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 8:42 ص القاهرة القاهرة 24°

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

رحلة داخل أطول قطار في العالم

تستغرق الرحلة من نواذيبو إلى الزويرات ما يصل إلى 20 ساعة
تستغرق الرحلة من نواذيبو إلى الزويرات ما يصل إلى 20 ساعة

نشر في: الأربعاء 11 سبتمبر 2019 - 1:32 ص | آخر تحديث: الأربعاء 11 سبتمبر 2019 - 1:32 ص

وضعت لثام الطوارق على وجهي لحماية عيني من الأتربة والرمال، وتسلقت السلّم وجلست على حافة عربة البضائع، ثم بدأت أجول بنظري في المشهد الممتد أمامي، حيث اصطفت العربات في صف لا نهاية له وأخذت تتأرجح يمينا ويسارا وصعودا وهبوطا، وسط الكسبان الرملية بالصحراء الكبرى مترامية الأطراف.

ورأيت أشخاصا فوق عربات البضائع الأمامية يواجهون الرياح ويتصايحون باللغة العربية وتختلط أصواتهم بضجيج القطار الذي يصم الآذان.

قد يظن البعض أن الرحلة بالقطار عبر الصحراء هي رحلة هادئة تبعث على الاسترخاء، وهذا صحيح إلى حد ما، لكنها كانت أيضا عذابا مضنيا للجسم والحواس. إذ تتألم أذناك من صوت عجلات القطار الصاخب، وتشعر بأن الهزات المتواصلة تسري في أوصالك، وأن شمس الصحراء توخز جفونك، ويتخلل الحصى والتراب الذي تذروه الرياح الساخنة خصلات شعرك.

ومنذ تشغيله في عام 1963، يقطع قطار الصحراء في موريتانيا 704 كيلومترات يوميا من الميناء بمدينة نواذيبو على ساحل الأطلسي إلى مناجم الحديد في الزويرات شمال شرقي البلاد. وتستغرق الرحلة بأكملها نحو 20 ساعة ويمر خلالها القطار بمحاذاة منطقة الصحراء الغربية المتنازع عليها.

ويضم القطار، الذي يبلغ طوله كيلومترين، ثلاث أو أربع قاطرات وعربة ركاب وما بين 200 و210 عربة بضائع، قد تحمل كل منها، في رحلة القطار الغربية إلى نواذيبو، ما يصل إلى 84 طنا من خام الحديد.

وينقل القطار الركاب أيضا من المناطق النائية في قلب الصحراء وإليها، إذ يختصر ما يصل إلى 500 كيلومتر على سكان هذه المناطق الذين يسافرون في المعتاد عبر طريق طويل جنوبا إلى العاصمة الموريتانية نواكشوط.

وقد اخترت أنا ورفيقي مايك، كشأن الكثير من الموريتانيين، أن نتفادى عربة الركاب المزدحمة، ونركب في المقابل في عربة البضائع مجانا، مع أن الرحلة في عربة البضائع خطيرة وصاخبة ومليئة بالأتربة، وقد تتجاوز درجة الحرارة فيها 40 درجة مئوية أثناء النهار.

وعلى الرغم من أنني ركبت من قبل قطارات مكتظة بالركاب ونزلت في بيوت عمال متهالكة وتجولت في مستنقعات موبوءة بالبعوض في روسيا، إلا أن الرحلة في هذا الصندوق المعدني الخالي المكشوف، حيث تضافرت علينا الحرارة والرياح والضجيج، وسط هذه القافلة الفولاذية الصحراوية، كانت درسا قاسيا في التقشف.

وطالما حكى لي أبي عن هذا القطار، الذي يعد واحدا من أطول القطارات في العالم، وكان يقول "تخيل أن تسافر مئات الأميال عبر الصحراء الكبرى في عربة بضائع وتنزل في وسط الصحراء قبل طلوع الفجر وأنت تدعو الله أن تكون في المحطة الصحيحة".

وفي عام 1971، أبحر أبي وأمي من جزر الكناري إلى أحد الموانئ فيما يعرف الآن بالصحراء الغربية، ثم سافرا جنوبا إلى موريتانيا. وسمعا أنه من الممكن ركوب قطار بضائع إلى المستوطنات التي كانت قديما محطات على الطرق التجارية في الصحراء الكبرى، ونزلا عند قرية شوم. ثم قادتهما الطرق الوعرة إلى مدينة أطار ومدينة شنقيط التي اشتهرت في العصور الوسطى بأنها إحدى المدن المقدسة.

ولم يوثق هذه الرحلة سوى صورة واحدة قبل العصر الرقمي، يظهر فيها أشخاص في عربة بضائع تغمرها أشعة الشمس، ينظرون إلى فضاء لا متناه من الرمال. وقد حلمت كثيرا بركوب هذا القطار فوق خام الحديد يوما ما.

وها أنا ذا، أجلس فوق عربة فولاذية وسط الصحراء، وقد حاولت أنا ورفيقي مايك أن نسير على خطى أبواي فننزل في قرية شوم ثم نذهب إلى أطار وشنقيط، تخليدا لذكراهما ولتحقيق حلم الطفولة.

وفي نواذيبو، قادنا الحظ إلى أيبا، موظف الاستقبال في الفندق، الذي أعطانا أكياسا بلاستيكية وشريطا لاصقا لتغليف حقائبنا حتى لا تطالها الأتربة والرمال. وأوصلنا إلى عربة القطار الأقرب إلى محطتنا لاختصار مسافة السير، التي قد تصل إلى كيلومتر إن ركبت في العربة الخاطئة.

وكلما شعرنا بضيق هذه العربة الخالية من النوافذ التي لا تتعدى مساحتها ثمانية أمتار في أربعة أمتار، كنا نصعد الدرج ونجلس على الحافة ونشاهد الكثبان الرملية والشجيرات الشائكة.

وفي آخر النهار، خفت ضوء الشمس قليلا، وتوقف القطار وسط الصحراء، ونزل الناس من سطح عربات القطار وأخذوا يتصافحون ويتبادلون التحية، كما لو كانوا متفرجين يتحدثون في ردهة المسرح وقت الاستراحة وليسوا مسافرين عبر الصحراء في قطار نقل بضائع.

وكانت العربات الأمامية تضم تجارا، من جنوب أفريقيا وشمالها، بعضهم شباب نحفاء، يرتدون سترات جلدية وملابس رياضية، وكان بينهم أيضا بعض الرجال الأكبر سنا من الطبقة العليا في موريتانيا ذوي البشرة الفاتحة الذين ينحدرون من شمال أفريقيا، وكانوا يرتدون عباءة الطوارق الزرقاء الفضفاضة واللثام الأبيض.

ولعل هذا الخليط من الركاب هو مرآة عاكسة للتنوع العرقي في المجتمع الموريتاني، ذاك البلد الذي يقع ما بين العالم العربي وبين منطقة أفريقيا جنوب الصحراء، ولا ينتمي إلى أي منهما. إذ تخضع الحياة في موريتانيا، التي حظرت تجارة الرقيق في عام 1981، لنظام طبقي صارم، يكاد في ظله أن يكون التواصل الاجتماعي منعدما بين النخبة "البيضان"، ذوي البشرة الأقل سمرة، وبين شريحة "الحراطين"، المكونة من الموريتانيين من أصول أفريقية والبربر.

وعندما تحدثت مع الركاب، اكتشفت أهمية القطار في الربط بين نواذيبو وبين المجتمعات الصحراوية النائية. إذ ذكر عبد الرحمن، الشاب ذو القسمات المغربية أنه يسافر إلى الزويرات بحثا عن عمل، بينما أخبرني محمد، الرجل المسن، أنه يزور ابنه في أطار، بين الحين والآخر.

وعندما انحدرت الشمس إلى مغربها، اتجه بعض الركاب إلى الصحراء للصلاة، بينما افترش البعض الآخر الرمال الناعمة. ثم علا صوت صفير القطار إيذانا بالتحرك، وهرول الركاب إلى القطار.

وبعدها لف الظلام المكان، وأصبح الهواء أكثر برودة، وسرعان ما اكتست السماء بالنجوم المتلألئة. وفرشنا أنا ورفيقي غطاء في الجزء الخالي من الأتربة لننام، لكن البرد والرياح منعانا من النوم.

وفي منتصف الليل، جلست في العربة وقد خيم السكون على العالم. وبدت في الأفق الجبال السوداء وسط الصحراء الشاسعة. ومرت بمحاذاتنا قاطرات ضخمة في الاتجاة المعاكس، ورأيت عربات مملوءة بخام الحديد، وفوق الحديد تقف قطعان من الماعز بلا حراك.

وبعد 12 ساعة توقف القطار في قرية شوم في جنح الظلام وكان البرد قارسا، ونزلنا مسرعين عبر السلالم إلى سيارة قديمة كانت تنتظرنا. ورأينا عربات القطار وهي تتحرك حتى اختفت تحت ستار الليل.

وفي اليوم التالي، كان صدى صوت احتكاك عجلات القطار لا يزال يتردد في رأسي، وكل ما أتذكره أن المستندات كادت تسقط من يدي أثناء تقديمها للشرطي في نقطة التفتيش في الظلام، وكنت أجوب شوارع أطار فجرا، واستسلمت للنوم لساعتين على بساط في غرفة خالية من الأثاث ملحقة بمرآب سيارات أجرة، ثم ركبنا سيارة متهالكة أخذت تهتز بنا في طريق وعر.

ووصلنا إلى شنقيط، تلك المدينة التي غيّر الزمن معالمها بشكل لافت، إذ تداعت مكتباتها القديمة وشوارعها شيئا فشيئا حتى أصبحت أكواما من الحجارة وسط فضاء شاسع من الكثبان الرملية. وبدت المدينة كصورة كئيبة لأطلال مجد ضائع، وكأن ماضيها يتسرب ببطء من ذاكرتها.

وفي الأيام اللاحقة التي أمضيناها في شنقيط وسط الركام والحطام، بدت ذكريات رحلة القطار غير واقعية كأنها أضغاث أحلام، أو ربما صورة ذهنية مشوشة المعالم تداخلت تفاصيلها مع تفاصيل رحلة أبي وأمي منذ عقود مضت. غير أن ذرات أتربة خام الحديد ظلت تسقط من أذني لمدة أسبوع تقريبا بعدها.



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك