فاز الرئيس التركى رجب طيب أردوغان بولاية رئاسية ثالثة بعد تفوقه بالحصول على 52.14 فى المائة من أصوات الناخبين الأتراك مقابل 47.86 فى المائة لمنافسه خلال الجولة الأخيرة كمال كليتشدار أوغلو، وهو نجاح يحسب لأردوغان وإنجاز كبير باعتبار أنه يبدأ ولاية جديدة، وعلى معارضيه الاعتراف بذلك على رغم أنها المرة الأولى التى يضطر رئيس تركى إلى المضى فى مرحلتى العملية الانتخابية لعدم حصوله على أكثر من 50 فى المائة من أصوات الناخبين فى أولى الجولات.
تحسب هذه النتيجة للرئيس التركى المحنك سياسيا، بخاصة أن الانتخابات عقدت فى ظل ظروف اقتصادية قاسية فى تركيا، شهدت انخفاضا شديدا فى قيمة الليرة التركية وفى رصيد الاحتياط المالى، مما أثار قطاع الأعمال والطبقة الوسطى، وجرت وسط توتر العلاقات التركية مع الغرب وكثير من الدول المجاورة، وتداعيات ذلك أمنيا واقتصاديا ونتيجة لتدفق اللاجئين، والصدمة العنيفة التى صاحبت الهزة الأرضية عبر الحدود التركية ــ السورية، وإن كان بعضهم يرى أن هذه الأزمات دفعت الناخبين إلى الالتفاف حول أردوغان باعتباره شخصية قوية ضرورية وقادرة على تسيير الدفة الوطنية خلال الأزمات.
قد يختلف بعضهم حول أسباب نجاح أردوغان فى هذه الانتخابات، ولكن لا أعتقد بأن هناك اختلافا حول أن أردوغان أثبت مرة أخرى بهذه النتيجة أنه قارئ جيد للساحة السياسية التركية وسياسى محنك ومرن تكتيكيا. وانعكس ذلك خلال الحملة الانتخابية فى التوازنات التى حافظ عليها بين مخاطبة اليمين بإعلان مواقف متشددة من اللاجئين وعدم تراجعه عن أحلامه حول النفوذ التركى أو فى اتخاذ مواقف متشددة فى المنطقة، واتهام منافسه أنه لا يعطى الأولوية الكافية للدين الإسلامى أى أنه ليس «مسلما صالحا» وهو ما يثير كثيرا من المواطنين المتمسكين بهويتهم.
كما زايد أردوغان فى التحفظ على دخول السويد حلف شمال الأطلنطى لمواقفها المنفتحة على الأكراد، وفى المقابل وجه بالانفتاح الهادئ على دول عربية مثل الإمارات والسعودية ومصر وبخطى متدرجة قبل الزلزال وبعده لجذب الاستثمارات العربية وتهدئة قطاع الأعمال والوسط السياسى التركى المنتقد للتوجه الصدامى للبلاد خلال رئاسته.
واصل أردوغان أداءه السياسى المتطور بعد ظهور نتيجة الانتخابات، فانتهز فرصة اتصال الرئيس المصرى عبدالفتاح السيسى للتهنئة ليعلن الطرفان عن قرب تبادل السفراء، تلاها حضور وزير الخارجية المصرى للمراسم الرسمية التركية فى مناسبة انتخاب الرئيس لولاية جديدة. وتراجع بعض الشىء عن موقفه الانتخابى المتشدد من استمرار اللاجئين على الأراضى التركية بالإشارة إلى أن تنفيذ وعوده الانتخابية ستتم تدريجا لاعتبارات إنسانية، ونشط الدبلوماسية التركية فى تشجيع روسيا وأوكرانيا على إحياء الاتفاق المبرم بينهما فى إطار الأمم المتحدة لتوريد القمح الذى يرحب به أيضا العالم الغربى لأنه يخفف من الضغوط الاقتصادية على الدول النامية والناتجة من العقوبات المفروضة على سوريا ومن يتعامل معها.
وهناك تقديرات غربية بأن أردوغان قد يخفف اعتراضه على انضمام السويد إلى حلف شمال الأطلنطى وهى أمور تحتاج إلى مزيد من المتابعة.
ويوفر التشكيل الوزارى التركى الجديد بعض المؤشرات إلى ما هو آت، مع أهمية توخى الحذر وعدم التسرع والمبالغة فى قراءة المستقبل، بخاصة أن التشكيل الوزارى يعكس أن أردوغان وازن بين أمور وآراء وتوجهات عدة فى اختياراته.
على المستوى الخارجى أعاد تعيين إبراهيم قلين رئيسا للاستخبارات التركية بعدما تولى منصب المتحدث الرسمى والقائم بأعمال مستشار الأمن القومى على رغم عدم تقلده ذلك المنصب رسميا.
فى المقابل ترك هاكان فيدان منصب مدير الاستخبارات وتولى حقيبة وزير الخارجية وهى اختيارات مهمة وحساسة، باعتبار أن الاثنين كانا فى المطبخ السياسى لأردوغان عندما اتخذ مواقف متشددة وصدامية تجاه عدد من الدول المجاورة، حتى فى نهاية فترة داوود أوغلو وزير الخارجية الذى تبنى نظرية سياسة «لا صراعات» مع الدول المجاورة. غير أن فلين وفيدان كانا أيضا أطرافا فاعلة ومحركة للدبلوماسية التركية فى ليبيا وسوريا وعدد من الدول العربية. فأين تتجه الدفة؟ وهل سيكلف الفريق سياسات توافقية وهل ينجح فى رأب الصدع مع الغرب أو مع سوريا وفى ليبيا وغيرها؟
لوحظ أيضا تغيير وزير الداخلية التركى واستبداله بالمحافظ السابق لإسطنبول على يرليكايا الذى يدخل فى اختصاصاته ملفا الإرهاب واللاجئين اللذان كانا من أهم القضايا أثناء الانتخابات، إضافة إلى التعامل مع تداعيات ومطالب آلاف المواطنين المتضررين من الهزة الأرضية الأخيرة، وهى معادلة لا تحتاج إلى يد قوية وأحيانا صارمة، وإلى خطاب سياسى إنسانى متجاوب ومتطور فى الوقت نفسه.
وعلى أهم الساحات التركية وهى الاقتصادية، أعيد تعيين مهمت شمشيك وزيرا للمالية بعد أكثر من سبعة أعوام على تركه لهذا المنصب، واعتبر ذلك إشارة إيجابية لقطاع الأعمال الوطنى والدولى، بعد سنوات عجاف وسياسات اقتصادية تركية غير تقليدية، والرهان غير المحسوم هو، هل ينجح الوزير الجديد فى إقناع أردوغان ذاته بأهمية تغيير المسار الاقتصادى الذى ارتبط به مباشرة وبقوة فى الأعوام الأخيرة؟
وعملية التوازنات والمواءمات التركية الداخلية ستظل قريبة من الساحة الاقتصادية ومؤثرة فيها، فنائب الرئيس التركى سيفدت يلماز اقتصادى عمل طويلا فى البيروقراطية، ووزير التجارة الجديد عمر بولات من قطاع الأعمال، فضلا عن أن وزراء الخارجية والدفاع السابقين وكافة نواب حزب «العدالة والتنمية« الذى ينتمى إليه الرئيس، حلفوا اليمين أخيرا أعضاء فى البرلمان الجديد، ومن ثم يشكلون عنصر ضغط على الحكومة من أية تغيرات جوهرية، بخاصة إذا لم يتحمس لها أردوغان.
أؤيد جس النبض والسعى إلى تطوير العلاقات مع تركيا، وكان هذا موقفى حتى قبل معرفة نتيجة الانتخابات التركية لأنها دولة مهمة شرق أوسطيا ودوليا، وعلينا إدارة العلاقات معها وإنما من السابق لأوانه الانتهاء بثقة إلى توجهات وممارسات أردوغان السياسية فى المرحلة المقبلة، فالأعمال والممارسات هى المحك الرئيس، وليس التصاريح الانتخابية أو التفاعلات مع أحداث إنسانية أو توظيف مناسبات ومراسيم، وإنما ما لا يختلف حوله أحد أنه رئيس يؤمن ويتطلع لأن يكون لتركيا دور ريادى فى الشرق الأوسط، وأن توجهاته الشخصية والسياسية تميل وبوضوح تجاه الإسلام السياسى، ولا يحيد عن إعطاء الأولوية لذلك إلا إذا كلفه هذا كثيرا فى طموحاته الريادية الشخصية والتركية.
أما إذا تعارضت تلك التوجهات مع الساحة السياسية التركية الوطنية، فلا يتردد أردوغان فى المناورة التكتيكية وإعادة ترتيب أولوياته ومعاركه، إذا هو سياسى طموح، أيديولوجى الهوى، وبراغماتى الممارسة فى مساحة سياسية يسعى فيها إلى المناورة لتحقيق التوازن المقبول له بين صفاته الثلاث.