حلقات من كتاب عبد الله السناوي «أحاديث برقاش.. هيكل بلا حواجز»: عبد الناصر والسادات.. أوراق ووثائق «5 - 10» - بوابة الشروق
الأحد 28 أبريل 2024 8:49 ص القاهرة القاهرة 24°

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

يصدر عن دار الشروق قريبا..

حلقات من كتاب عبد الله السناوي «أحاديث برقاش.. هيكل بلا حواجز»: عبد الناصر والسادات.. أوراق ووثائق «5 - 10»


نشر في: الثلاثاء 21 فبراير 2017 - 4:34 ص | آخر تحديث: الثلاثاء 21 فبراير 2017 - 10:47 ص
عبدالناصر والسادات.. أوراق وثائق
تأثر فى بداية حياته المهنية بعقلانية «هارولد إيريل» ورومانسية «سكوت واطسون» وسحر أسلوب «محمد التابعى»
استوعب الدرس جيدا فى علاقته مع السلطة من تجربته فى «الإجيبشيان جازيت»
عبدالناصر كان يرتاد السينما فى السنوات الأولى لثورة 1952 وشاهد معه فيلم «فيفا زاباتا»
زكريا عزمى طلب منه التدخل لعرض موضوع حساس على السادات عقب حرب أكتوبر
كيف أقنعه عبدالناصر بقبول وزارة الإعلام بعد تحفظه على التعيين؟
ساهم فى معركة نقل حائط الصواريخ إعلاميا ودبلوماسيا إلى الجبهة الأمامية
النقراشى باشا لم يقتنع بتحقيقاته «النار فوق الأرض المقدسة» عام 1948 وقال له: «الكلام ده جبته منين؟»
ضرورات حواره مع عبدالناصر فرضت لغة الوثائق والاستناد إليها.. والسادات لم تكن لديه خبرة يعتد بها فى الدولة
حصل على وثائق فائقة السرية من أرشيف «السفارة الأمريكية» فى طهران عند اقتحامها.. والخمينى أصدر تعليماته بفتح مكتب الشاه أمامه لأخذ ما يريد من وثائق
اكتشف ضلوع دبلوماسى أمريكى التقاه ودعاه للغداء أكثر من مرة فى خطة لاغتيال «عبدالناصر»
فى تجارب السياسة والصحافة والحياة فإن للمرة الأولى أثرا لا يمحى، قد لا تكون ناضجة تماما لكنها تنطوى على سحر الاكتشاف الأول.

التحق بجريدة «الإجيبشيان جازيت» للتدرب.. وكانت فى ذلك الوقت أكبر الصحف الأجنبية، التى تصدر باللغة الإنجليزية عن شركة الإعلانات الشرقية المملوكة لأسرة «فينى».

وقد تأثر بـ«سكوت واطسون» المثقف اليسارى، الذى صاغته تجربة الحرب الأهلية فى إسبانيا بكل عناصرها الفكرية والإنسانية العظيمة، «وهارولد إيريل» رئيس تحرير الجريدة.

بمجازفات سن الصبا فى سبتمبر (١٩٤٢)، قبل أيام من بدء حرب العلمين، قرر أن يدخل تجربة تغطيتها عند الخطوط الفاصلة ما بين الحياة والموت.

جازف بقراره دون موافقة والده وتمكن بطريقة ما من إقناع خاله أن يوقع على موافقة خطية بالسفر إلى مواطن الحرب.

قبل أن يسافر مباشرة جلس إليه رئيس تحرير «الجازيت».. وكان ما تلقاه من إرشادات حاسما فى مسيرته المهنية.

قال «إيريل» باقتضاب: «لا ترسل أخبارا، حاول أن تستقصيها وتكتشف خباياها بقدر ما تستطيع، لا نتوقع منك أن تنافس مراسلى الصحف والوكالات الدولية، الظروف لن تمكنك من أن ترسل ما تحصل عليه فى برقيات، والحل الوحيد أمامك، وهذا ما نطلبه منك ونكلفك به، أن تدون ملاحظاتك على ما ترى فى ميادين الحرب وسير معاركها، وأن تسجل انطباعاتك على ورق أولا بأول على وقع ما يجرى أمامك.. وعندما تعود حاول أن تضبط صياغاتها دون أن تفقدها حيويتها وطزاجتها التى كانت عليها، فالمادة المكتوبة على صياغتها الأولى فى وقتها أكثر حياة مما يكتب بعدها».

بعد سبعين سنة، وتجاربه المهنية اتسعت إلى آفاق مفتوحة، قال: «ثبت بالتجارب أن هذه القاعدة سليمة، وسليمة تماما».

ذات يوم كان مقررا للصحفى الشاب أن يلتقى «مصطفى باشا النحاس»، زعيم الوفد وزعيم الأمة ورئيس الحكومة.

بدا مرتبكا من فكرة اللقاء فى حد ذاتها، فنهره «هارولد إيريل» ووجه إليه نظرة مخيفة بعين فيها حول، قائلا: «أنت تمثل جريدة تطبع عشرات الآلاف من النسخ، وتأثيرها نافذ فى مجتمع النخبة المصرية، لا بد أن تدرك منذ الآن أن الصحفى ند لرئيس الحكومة».

استوعب الدرس جيدا فى علاقته مع السلطة، اقترب كثيرا واختلف أحيانا، وحاول طوال الوقت أن يحافظ على مساحة ندية، ولم يقبل أبدا بأقل من ذلك.

كان الدرس الثانى، الذى تلقاه فى «الجازيت» من «هارولد إيريل»، أن يدرس موضوعه قبل أن يسأل مصادره، فـ«إذا ما اكتشفت أنك لا تعرف موضوعك لن تقول لك شيئا جديدا».

لم تطل رحلته مع «الجازيت» أكثر من عامين، فقد انتقل بدعوة من الأستاذ «محمد التابعى» ــ الرجل الذى صنع ثورة كاملة فى الأسلوب الصحفى وحول لغة الصحافة إلى ما يسمى اليوم سلاسة الكتابة الصحفية ــ إلى مجلة «آخر ساعة».

هكذا قدر له فى بداية حياته المهنية أن يتأثر بعقلانية «هارولد إيريل»، ورومانسية «سكوت واطسون»، ثم سحر أسلوب «التابعى».

دروسه الأولى فى الصحافة، بالذات من «واطسون»، دفعته للذهاب بعد ذلك إلى المناطق المتفجرة بالحروب والأزمات فى اليونان وفلسطين وإيران وسوريا وكوريا وفيتنام، حيث صنع الحروف الأولى من اسمه فى بؤر الموت والخطر، لكن لم يخطر بباله أنه بعد سنوات طويلة عندما يخرج من السلطة و«الأهرام» معا، فإن أصدقاءه الصحفيين، الذين تعرف عليهم فى ميادين القتال، و«كبر وكبروا معه»، سوف يمدون له يد المساندة ويفتحون أمامه أبواب الصحافة البريطانية والفرص الواسعة لاحتلال مكانة مرموقة فى الصحافة العالمية.

(١)

فى الأوراق الخاصة ما يكشف عن طرائق التفكير، وفيها أسرار أخفاها كاتبها وأحكام لم يفصح عنها، وكان قد قرر أن يترك أوراقه الخاصة على النحو الذى كتبت به أول مرة لمن يأتى بعده من باحثين ومؤرخين وصحفيين يدققون فى الأصول الخام ويطابقونها بما نشر فعلا فى مقالات وكتب.

تلك مسألة ليست باليسر التى تبدو عليها، فالأوراق الخاصة سر صاحبها، وقد تستخدم ضده: لماذا أغفل نشر معلومات وردت فيها.. وكيف تباينت الصياغات الأولية مع ما هو منشور.. ومدى تأثير الانحيازات الشخصية على الصياغات والرؤى والرواية كلها؟

كان يدرك ذلك تماما، لكنه قرر أن يترك كل شىء للتاريخ يحكم بما يحكم به، قبل أن تحرق الكتلة الرئيسية من تلك الأوراق الخاصة.

فى وقت لاحق التفت إلى سجالات صاخبة حول «أوراق بوب وودورد»، ألمع الصحفيين الأمريكيين المعاصرين، نالت على نحو فادح من صدقيته المهنية.

كان «وودورد» قد باع بـ(٥) ملايين دولار أوراقه، التى صاغ على أساسها كتابه الأشهر «كل رجال الرئيس» عن سقوط الرئيس الأمريكى «ريتشادر نيكسون» بتداعيات فضيحة «ووتر جيت».

بدا لباحثين فى الأوراق ومنقبين فيها أن ثمة تناقضات ومعلومات جرى التلاعب بها انتهكت سلامة روايته وقوضت أسطورته الخاصة.

كل ما نشر فى الصحافة الغربية عن «أسطورة وودورد التى تهاوت» أودعه داخل «دوسيه أحمر».

لم يكن مرتاحا لفكرة «بيع الأوراق الخاصة»، لكنه بدا مستعدا أن يواجه الاختبار ذاته.. بلا إغراء مال، أو إغواء بيع، واثقا أن التنقيب فى أوراقه وأصول تفكيره ينصفه فى التاريخ.. غير أن الأوراق راحت فى «حرائق برقاش».

(٢)

سألنى ذات مرة: «ما العبقرية؟»، لم يكن يتحدث عن نفسه، والحوار الذى قطع سياقه بسؤال العبقرية كان عن شخصيات صحفية وسياسية لها أدوارها المقدرة.

أجاب عن سؤاله بنفسه معتمدا تعريفا للمؤرخ الهولندى «هنريك فان لون»: «كمال التقنيات وشىء ما آخر»، أن يكون كل شىء دقيقا ومتقنا يتوخى الكمال بقدر الاستطاعة الإنسانية، لكن التقنية المكتملة وحدها ليست عبقرية، فـ«التكنوقراطى» عنده التوجه ذاته للوصول إلى أعلى ما يستطيع من تقنية مكتملة. هى ضرورية بذاتها وملازمة للإبداع الذى يتجاوز المألوف والمعتاد، لكن العبقرية تستند بالإضافة إلى اكتمال الصنعة إلى شىء آخر، لا تستطيع أن تعرفه، أو أن تمسكه، أو أن تحيط بأسراره، ولكل شخصية استثنائية «شىء ما» يتخطى تقنياتها غير قابل للاستدعاء المعلب وغير صالح للنظريات الجاهزة.

عبقريته فى أسلوبه، تقنياته «تعب عليها» وطورها من مرحلة إلى أخرى، حاول بقدر ما يستطيع أن يصل بها إلى شىء من الكمال، أو أن يكون مستوى إنتاجه المهنى والفكرى متسقا مع حجم ما بذل فيه من جهد، فهو رجل لم يكن يدخر جهدا فى عمله، يكرس وقته كله لاستقصاء المعلومات والتدقيق فيها قبل أن يضعها فى سياق.. وغريزة التدوين عنده القاعدة الأساس لكل ما كتب وأنتج على مدى عقود، بالإضافة إلى تقنياته فى قراءة الوثائق والخرائط والصور، لكن شيئا ما آخر صنع عبقريته.

بتراكم الخبرات والتجارب بدأ يرتب أوراقه الخاصة فى مجموعات نوعية لكل مجموعة سماتها وطبائعها.

الأولى ــ تضم مواعيده الأسبوعية يوما بعد آخر.. وقد وافقت شخصيته واحتياجاته أوراقا مطوية ألوانها زرقاء رآها فى إحدى المكتبات اللندنية لـ«التذكر» عليها ثبت بأيام الأسبوع لتسجيل مواعيد اللقاءات عليها، فهو منضبط فى مواعيده، ولا يلتقى عادة إلا بمن يعتقد أن له قيمة، أو لديه ما يشهد به فى خلفيات حركة الحوادث.

فيما بعد طلب من إحدى المطابع المصرية الكبرى أن تطبع أوراقا مماثلة دون حاجة إلى جلبها من العاصمة البريطانية.

فى كل سنة (٥٢) أسبوعا، ولكل أسبوع مواعيده المسجلة على ورقة «تذكر»، تودع كل مجموعة سنوية فى «رابطة واحدة».

من طبائع الأمور أن تمزق أوراقا سجلت عليها مواعيدك بعد أن تنقضى فى نفس اليوم، أو اليوم التالى، وأن تلقى بقاياها فى أقرب سلة مهملات.. إلا هو لم يفعل ذلك أبدا.

سألته ذات مرة إن كان ممكنا أن نراجع سويا عدد المرات التى التقينا فيها على مدى السنوات المتصلة، وفيما تحاورنا، وماذا سجل من ملاحظات استرعت انتباهه أجاب واثقا: «نعم.. باستثناء المرات التى التقينا فيها ببرقاش فأنا أعتبر نفسى هناك فى إجازة لا أسجل مواعيد لقاءات، أو أودع ورقا فى أرشيف».

فى أوراق مواعيده إشارات لافتة إلى حجوزات فى سينما «راديو» كفيلم «فيفازاباتا»، الذى شاهده مع «جمال عبدالناصر» عندما كان يمكنه أن يرتاد دور العرض السينمائى فى السنوات الأولى لثورة يوليو (١٩٥٢).. وإشارات أخرى اكتسبت قيمتها من الزمن الذى يليها، ففى أوراق مواعيده أسماء كبر اسمها فيما بعد ولم يكن لها شأن عندما التقاها لأول مرة، تقريبا نساها، لكن مراجعة الورق تكشف وتبين وتدعو لتذكر شيئا من لقاءات عابرة.

قال لى ذات مرة فى نهايات عصر «حسنى مبارك»: «لقد اكتشفت اليوم أن زكريا عزمى ــ رئيس ديوان رئيس الجمهورية ــ عندما كان رائدا فى الحرس الجمهورى حضر فى الشهور التى تلت حرب أكتوبر لمكتبى فى الأهرام طالبا تدخلى لدى الرئيس السادات فى موضوع ما رآه حساسا، نسيت القصة كلها، فقد كانت عابرة، لم أسجل موضوعها على الورق، لكننى كتبت اسمه عليها».

«للورق ذاكرة أخرى قد تكتسب من الزمن معانى لم تكن لها فى وقتها».

الثانية ــ مجموعة أوراقه الشخصية التى يسجل عليها ملاحظاته وأفكاره وملخصات للقاءات أجرها مع شخصيات فاعلة فى الأحداث ومتداخلة فيها، كل ما له قيمة يسجله على ورق بعد انتهاء اللقاءات مباشرة، يعود إليها ويفحصها ويتأكد من مصادر أخرى دقة ما ورد فيها من معلومات.. ومجموعة الأوراق الشخصية تضم دفاتر سفر سجل فيها لقاءات جمعته مع مصادر من الدرجة الأولى ملوك ورؤساء حكومات وشخصيات نافذة فى صناعة القرارات ببلادها.. والمعلومات تتفاوت قيمتها من مصدر لآخر بحسب ما يتوافر له من اطلاع، أو بحسب ما يرغب فى التطرق إلى ملفات حساسة.

«لا أحد يبادرك بمعلومات جدية إلا إذا كنت فى صلب الصورة فى بلدك، غير ذلك فلن تجد غير المودة والاحترام والكلام السياسى العام»، وبشكل أو آخر فإن حواراته مع رؤساء دول وحكومات أوروبية تعمد لسنوات، ألا يشير إليها لا فى كتاباته ولا فى إطلالاته التليفزيونية حتى لا يثير حفيظة «مبارك»، الذى لم يكن يتردد فى إعلان ضيقه بسعة اتصالاته الدولية.

الثالثة ــ مجموعة محاضر كتبها لنفسه تضمنت اجتماعات لمجلس الوزراء تحت رئاسة «عبدالناصر» واجتماعات أخرى على درجة عالية من الأهمية.

كل ما له قيمة كان يكتبه على ورق، أو يضعه فى محضر بعد أن يخلو إلى نفسه.

«لو أمسكت ورقة وأخذت تكتب عليها أمام أى مصدر تحاوره فإنه سوف يتوقف عن التدفق فى البوح بأية أسرار وخفايا اطلع عليها، وسيخطر بباله على الفور أنه يعترف أمام الرأى العام».

«سوف يأخذ حذره ويخاطب الرأى العام عبرك ولا يخاطبك أنت».

«وأنت تستقصى مصادرك فمن الطبيعى أن تركز على السياق أساسا، عندما تتذكره فإن ما يرتبط به من معلومات وتفاصيل ترد بدقة إليك».

غريزة التدوين من غرائزه المهنية، والإخلاص لمهنته يفوق أى تصور، فعالمه يبدأ من الصحافة ويعود إليها.

«هل تعرف كيف أقنعنى عبدالناصر بقبول أن أكون وزيرا للإعلام؟».

«كان يعرف تعلقى بالأوراق والوثائق وما خلف الأحداث من قصص صحفية.. فى البداية تحفظت على قرار تعيينى دون استشارتى فى أمر يخصنى، وذهبت إليه فى منشية البكرى، لكنه خاطب ما يعرفه فى تكوينى، عارفا أن نقطة ضعفى الأساسية الصحافة وإغواءات أخبارها».

«قال لى عبدالناصر: عندك فرصة الآن أن ترى بنفسك ما يجرى فى الاجتماعات الوزارية من حوارات وأن تكون طرفا فى حوارات رسمية توفر لك خلفيات إضافية لما تعرف».

كعادته سجل محضرا بما قاله الرئيس، وصدى صوته لازمه: «نحن مقبلون على مرحلة فيها قتال وسياسة، وأنت لست فى حاجة إلى تعليمات يومية منى، وعليك أن تتصرف حتى نغطى موضوع نقل حائط الصواريخ إعلاميا ودبلوماسيا إلى الجبهة الأمامية، وسوف يرسل إليك الفريق أول محمد فوزى القائد العام والفريق محمد على فهمى قائد الدفاع الجوى كل ما له صلة بالملف».

«هكذا دخلت الوزارة وساهمت من موقعى فى معركة نقل الصواريخ من باب الصحافة وبسببها».

قال «هيكل» فجأة، كأننى لم أكن أمامه أسأل وأحاور: «كنت أشعر عندما أتكلم مع عبدالناصر كأننى أكلم نفسى».

(٣)

غريزة التدوين قادته إلى الولع بالوثائق، وقصته معها طويلة.

راح يتذكر ذلك اليوم من شهر مارس عام (١٩٤٨) عندما دلف إلى «أخبار اليوم»، وكل من قابله يخبره بأن الأستاذ «مصطفى أمين» يسأل من وقت لآخر عما إذا كان وصل الجريدة.

ما إن أطل عليه بادره: «أين أنت؟.. النقراشى باشا يطلب أن يراك الآن».

حامت تصورات وتوقعات وتساؤلات غير أن ما جرى لم يرد فى تصور، أو توقع.. فقد كان رئيس الحكومة «محمود فهمى النقراشى» مشغولا بما يجرى فى فلسطين ونذر الحرب تقترب، أراد أن يستقصى من الصحفى الشاب العائد توا من مسارحها الملتهبة خلفيات فيها.

سأل مستفهما عن المستعمرات اليهودية وما رآه من استعدادات للحرب كان قد وصفها بأنها «نذر شر».

وسأل متشككا إذا ما كان صحيحا أنه شاهد بنفسه فى إحدى المستعمرات «أكثر من ستين مدرعة» على ما روى فى سلسلة تحقيقاته «النار فوق الأرض المقدسة».

لم يكن رئيس الحكومة مقتنعا بما قرأ وسمع: «أنت يا ابنى الكلام ده جبته منين؟».. «أنت تبالغ فيما تقول والأمور ليست بالخطورة التى تتحدث عنها!».

لم تكن مصر قررت دخول الحرب.. والرجل الذى أرسلت قواته إلى فلسطين بعد أسابيع قليلة يتصور أن ما قرأه وسمعه مبالغات صحفى فى الرابعة والعشرين من عمره يصوغ مشاهداته بتوابل إثارة تتطلبها مهنته.

فى مواقيت تالية دعاه رجال دولة وسياسيون تقليديون إلى لقاءات مماثلة للاستماع إلى ما عنده من شهادات إضافية على ما نشره من تغطيات لصراعات وصدامات فى المنطقة، كل واحد منهم لديه ما يريد أن يستقصيه، ففلسطين ونارها تضغط على «النقراشى باشا»، وإيران وبركانها تلح على «إسماعيل صدقى باشا».. و«نجيب الهلالى باشا»، و«حافظ عفيفى باشا»، و«محمد حسين هيكل باشا»، لديهم أسئلة أخرى.

تبدت هنا مسألة حاسمة حكمت مسيرته فى الصحافة والسياسة على مدى عقود تناقضت فى طبائع رجالها وحقائق زمانها «أن أحدا فى السلطة، أو بقربها، لن يسعى إليك ما لم يكن لديك ما تقوله وأن يكون ما تقول عاينته بنفسك فى مواقع الأحداث».

فى انشغال «عبدالناصر» بقضية العلاقات الدولية مطلع الخمسينيات وما بعدها أفضت تجربته إلى التفات آخر إلى الوثائق وما تكشف عنه من خفايا الصراع على المنطقة وتوازنات القوى الحرجة على مسارحها الملتهبة.

«تتطلب حواراتك مع الرئيس أن تكون فى صورة ما يجرى، أن تكون مطلعا على تقارير الخارجية المصرية وأية تقارير أخرى تدخل فى الملف تكتبها جهات سيادية».

فيما بين أغسطس وسبتمبر (١٩٧١) جرت واقعة أمدته بغير انتظار بوثائق إضافية من أرشيف رئاسة الجمهورية على عهد «عبدالناصر».

فى حديقة بيت «السادات» على نيل الجيزة أخذا يتحاوران فى المواقف السياسية المستجدة، لم يكن هناك ما هو عاجل، أو خطير، على الأجندة الرئاسية، والحوار كان تقليديا ومعتادا بين صديقين.

على غير توقع، أو موعد مسبق، حضر «أشرف مروان» سكرتير الرئيس للمعلومات، ومعه حقيبتان من حجمين مختلفين معبئتان بأوراق ووثائق جلبها من مكتب «سامى شرف» وزير شئون الرئاسة فى «منشية البكرى» بعد اعتقاله فى أحداث مايو.

تصور «مروان» أن وثائق الرئاسة فى «منشية البكرى» قد تغرى الرئيس الجديد بقراءتها، أو اعتبارها «هدية ثمينة» تستوجب الامتنان والشكر، لكن «السادات» قال ساخطا: «لن أقرأ البلاوى دى.. أقرأها أنت يا محمد وإن كان فيها حاجة مهمة قل لى».

لم تكن الأوراق كلها جديدة عليه، لكنها احتوت على وثائق مهمة لم يطلع عليها من قبل أضيفت إلى مجموعاته.

طوال السنوات ما بين صعود «السادات» إلى رئاسة الجمهورية والفراق السياسى بينهما تدفقت إلى مجموعات وثائقه تسجيلات وتقارير وبرقيات ومراسلات دارت مع «هنرى كيسنجر» وزير الخارجية الأمريكى طوال عام (١٩٧٣).. أكثر من ذلك أرسلت إلى مكتبه بانتظام طوال تلك الفترة «مسيرات الرئاسة»، وهو تعبير مستقى من العهد الملكى ويقصد به كل ما يصل إلى الديوان الرئاسى، أو الملكى، أو ما يصدر عنه.. بينما كتب هو التوجيه الاستراتيجى لحرب أكتوبر وخطاب «الدرع والسيف» الذى ألقاه «السادات» فى مجلس الشعب قرب انتهاء معاركها.

بدا أن هناك اختلافا فى طبيعة العلاقة مع رئيسين.

أولهما ــ «عبدالناصر» يرسل ما يراه ضروريا لكى يكون فى صورة الدولة ويكون الحوار معه مستندا على حقائق.

«ضرورات الحوار فرضت لغة الوثائق والاستناد إليها».

وثانيهما ــ «السادات»، ضرورات أخرى حكمت الحوار، فلم تكن لديه خبرة فى الدولة يعتد بها، كأنه يقرأ كتابا لا يتقن لغته.

«أنا موصول بالجارى فى الدولة وهو كان بعيدا ويريد أن يعرف».

وقد ساعدته ظروفه أن يحصل على وثائق فائقة السرية من أرشيف «السفارة الأمريكية» فى طهران عند اقتحامها بعد وقت قصير من سقوط الشاه.

«كنت هناك فى لحظة التحولات الكبرى، عدت إلى إيران فى ظروف جديدة تختلف عن الظروف التى كانت عليها مطلع الخمسينيات، كانت طهران على موعد مع إطاحة الشاه وصعود آية الله الخمينى فى نهاية السبعينيات».

«اطلعت على جانب من وثائق السفارة الأمريكية لكن الشباب الذين احتلوها هم الذين حددوا الوثائق التى أحصل عليها بينما آية الله الخمينى أصدر تعليماته بفتح مكتب الشاه أمامى لأطلع على ما فيه وآخذ ما أريد من وثائق».

«عندما تجد اسمك منصوصا عليه فى وثيقة كتبها دبلوماسى بسفارة غربية بالقاهرة فإنك تجد نفسك فى حاجة لمراجعة أوراقك، وأن تبحث فى دقة الوثيقة التى تطالعها».

«قرأت تقارير لسفارتى أمريكا وبريطانيا سجلت خلافى مع الرئيس السادات وخروجى من الأهرام، أتأمل ما كتب وأفكر فى دلالاته، التى لم تخطر ببالى وقت الحدث».

«كاتب التقرير تتحكم فيه قضيتان.. أولاهما ــ المعلومات التى وصلت إليه ومدى دقته فى روايتها والتحقق منها.. وثانيتهما ــ قدرته على قراءة المشهد بتعقيداته ودقة استنتاجاته لكيفية تصرف أطرافه المختلفة».

«عندما تطالع وثيقة أنت طرف فيها فأنت تقرأها من الداخل ولديك شهادتك، بينما أى مؤرخ أيا كان حجمه فإنه يقرأ الوثيقة ذاتها لكن من خارجها، أدواته الأكاديمية حاضرة وثقافته التاريخية تسعفه لكنه لم يكن فى قلب الحدث، أو رآه من داخله».

وقد فوجئ، وهو يقرأ وثيقة أمريكية ورد فيها اسمه، بما يشبه صاعقة هبطت عليه، فـ«كاتب التقرير دبلوماسى أمريكى عمل فى القاهرة التقيته أكثر من مرة بمكتبى فى الأهرام ودعوته للغداء فى برقاش أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات دون أن يخطر لى على بال أن الرجل خطير فى عوالم المخابرات والاغتيالات السياسية.. وضالع فى خطة لاغتيال عبدالناصر».

صاعقة الوثيقة التى تكشفت أمامه حقائقها بعد سنوات طويلة أضاءت عنده مساحة غامضة جديدة، وسدت ثغرة ما فى روايته للصراع الضارى على المنطقة.


قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك