تمر في 21 يوليو ذكرى تدشين مشروع السد العالي، الذي توَّج رحلة كفاح مصرية لإدارة مياه النيل وتحقيق نقلة اقتصادية في مجالي الزراعة والكهرباء، بقيت نتائجها حاضرة في حياة المصريين. إلا أن هذا المشروع العملاق لم يخرج إلى النور إلا بعد سنوات من التضحيات والاجتهاد، بأيدي آلاف المهندسين والعمال المصريين، وبكفاح الشعب المصري، بعد أن واجه ضغوطًا دولية أعاقت الحلم المصري في إنشاء السد العالي، ليخرج في النهاية كمعجزة هندسية تحمي مصر من الفيضانات المدمرة وموجات الجفاف القاسية.
وتسرد جريدة الشروق، نقلًا عن كتب "البحث عن الذات" للرئيس السادات، و"النيل.. الثقافة والتاريخ والأساطير"، و"العلوم الجغرافية في عصرنا"، و"آيزنهاور والحرب والسلام"، أهم المعلومات عن السد العالي ورحلة الشعب المصري نحو تشييد سد على مجرى النيل.
جفاف وفيضانات.. والحال قبل السد العالي
اعتمد المزارع المصري منذ فجر التاريخ على مياه النيل، حيث تندر الأمطار والمياه الجوفية في مصر، ليبقى النيل محور الزراعة والشرب. إلا أن النهر العظيم اعتاد التقلبات المستمرة بين فيضان يغرق الأرض وجفاف يجوع الناس. وقد ساعدت القناطر ووسائل الري المختلفة على تنظيم الاستفادة من المياه، لكن لم يفكر أحد طوال العصور القديمة والرومانية واليونانية في بناء سد على النيل.
من بنات أفكار الحاكم بأمر الله
اشتهر الحاكم بأمر الله بقراراته المثيرة وتعاملاته الجائرة مع الرعية، لكن كتب التاريخ سجلته كأول من فكّر في بناء سد لتنظيم النيل في أسوان. ففي مطلع القرن الـ11، استدعى الفيزيائي العربي الشهير ابن الهيثم، وكلفه ببناء السد. بدأ ابن الهيثم دراساته، لكنه فشل في التنفيذ، وخشية من عقاب الحاكم ادعى الجنون، ليُحتجز 20 عامًا، وهي فترة أسفرت عن تأليف كتاب "المناظر"، أحد أعظم كتب الفيزياء.
يوناني مصري يشعل حلم بناء سد على النيل
كانت مصر في عهد أسرة محمد علي تعاني من مشكلات الفيضان ذاتها، ورغم بناء الاستعمار البريطاني لخزان أسوان، لم يحلّ هذا الخزان أزمة الفيضانات. هنا بدأ المهندس المصري من أصل يوناني، أدريان دانينوس، رحلة نضال لتشييد سد ينظم المياه. وقدم أول مقترح لحكومة الملك فؤاد الأول لبناء سلسلة سدود تعمل بأنظمة الهويس في أسوان، لكن الملك رفض المشروع بحجة ضعف الميزانية، إذ بلغت تكلفته 100 ألف جنيه. لم ييأس دانينوس، وعاود المحاولة مع حكومة الملك فاروق، لكنها قوبلت بالرفض أيضًا، لاقتناع الملك بخطة بديلة لتخزين مياه النيل في السودان.
جاءت ثورة 1952، ومعها تجدد الأمل لدى دانينوس، فكرّر زياراته لمجلس قيادة الثورة، مقدمًا مشروع السد، ليحظى بموافقة الزعيم جمال عبد الناصر عام 1954، الذي كلفه بالتفاوض مع الشركات الأمريكية لتنفيذه. وافقت أمريكا، وعرضت تمويل المشروع عبر البنك الدولي.
كفاح أمة من أجل السد العالي
واجه المشروع أول وأكبر العقبات حين تراجعت الولايات المتحدة عن تمويله، ردًا على استيراد مصر أسلحة تشيكية لتحديث جيشها. وكان الحل من الرئيس عبد الناصر هو تأميم قناة السويس لتوفير نفقات السد، وهو ما تسبب في العدوان الثلاثي في أكتوبر 1956، حيث احتُلت مدن القناة وتعرضت الأراضي المصرية لغارات جوية. لكن الجيش المصري امتص الهجوم، الذي توقف بعد ضغوط أمريكية وسوفييتية على دول العدوان.
الحرب الباردة وفرصة ذهبية لبناء السد
سارع الاتحاد السوفييتي، بعد أسابيع من توقف العدوان، إلى تمويل المشروع المصري، ليحقق أحد أضخم المشروعات المائية في ذلك الزمن. وفي ديسمبر 1956، أقرض الاتحاد السوفييتي مصر 400 مليون دولار لتغطية تكلفة الفنيين الأجانب والمعدات. كما تولت الهيئة السوفييتية للمشروعات المائية تصميم السد، الذي وضع مواصفاته المهندس نيكولاي ألكزاندروفيتش، بتصميم يختلف عن اقتراح دانينوس.
بأيدٍ مصرية
انطلقت أعمال بناء السد وحفر الأنفاق في يناير 1960، بمشاركة 25 ألف مهندس وعامل مصري. وتحمّلت شركة المقاولون العرب، التي أسسها عثمان أحمد عثمان، نصف الأعمال التنفيذية للمشروع. واستمرت المرحلة الأولى 5 سنوات، شملت حفر 6 أنفاق وتبطينها بالخرسانة وبناء السد حتى منسوب 130 مترًا. ثم بدأت المرحلة الثانية عام 1964 ببناء جسم السد وبدء ملء الخزان، وتبعتها المرحلة الثالثة ببناء المحطات الكهربية، ليُنجز المشروع في 21 يوليو 1970، باحتفال كبير شهده الرئيس جمال عبد الناصر ونظيره السوفييتي نيكيتا خروتشوف، الذي وصف السد العالي بأنه "ثامن عجائب الدنيا السبع".
أطول سد في عصره
احتل السد العالي الصدارة عند تدشينه، باعتباره أطول سد ركامي في العالم، بطول 3830 مترًا. واعتُبر أضخم مشروع مائي في إفريقيا، وسادس أضخم مشروع مائي عالميًّا. بلغ ارتفاعه 111 مترًا، وحجمه الإجمالي 43 مليون متر مكعب. ويخزن المياه في بحيرة ناصر، التي تمتد لـ500 كيلومتر، ويمكنه تمرير 11 ألف متر مكعب من المياه في الثانية، ويحتوي على 12 مولد كهربائي تولد أكثر من 2 جيجاواط من الكهرباء.
كيف أصبح نقلة نوعية للاقتصاد المصري
ساهم السد العالي في دعم الاقتصاد المصري، حيث زادت مساحة الأراضي الزراعية بنسبة 33٪، ووفّر 22 مليار متر مكعب من المياه المهدرة بفعل الفيضانات. كما ساعد في توطين مئات الآلاف من الفلاحين حول الأراضي الجديدة، وساهم في تنويع المحاصيل، إذ لم تعد الزراعة تعتمد على مواسم الفيضان. أما على المستوى الملاحي، فقد نظّم حركة الملاحة مع غياب الجفاف، الذي كان يعطل المراكب النيلية.
حماية لمصر من كوارث مأساوية
ضرب الجفاف إفريقيا مرتين، الأولى عام 1973 واستمرت عامين، والثانية في الثمانينيات لعدة سنوات، وأسفرت عن كوارث غذائية في دول شرق إفريقيا، لكن مصر نجت بفضل السد العالي. كذلك، ساهم السد في تقليل مشكلات البلهارسيا، إذ تراجعت معدلات الإصابة بالمرض خلال السبعينيات، مع تحكّمه في طبيعة مياه النيل المارة خلاله.