أسامة غريب يكتب: ترانيم في ظل تمارا - بوابة الشروق
الأحد 27 يوليه 2025 10:28 م القاهرة

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تتوقع النجاح لنظام الدوري المصري الجديد في ظل مشاركة 21 فريقًا؟

أسامة غريب يكتب: ترانيم في ظل تمارا


نشر في: الجمعة 25 يوليه 2025 - 8:29 م | آخر تحديث: الجمعة 25 يوليه 2025 - 8:29 م

هذا الكتاب هو آخر أعمال محمد عفيفى، لكنه رحل دون أن يراه مطبوعا. قرأته غير مرة، وفى كل مرة تزداد قناعتى بأننا لا نحسن التعامل مع ما بين أيدينا من كنوز، فهذا الكاتب الموهوب يصفّى روحه ويقدم رحيقها على الورق وهو يودّع الحياة بينما لا أحد من النقاد فكر فى أن يحسن إلى نفسه وإلى القراء ويلفت انتباههم إلى عمل لا يشبه شيئا فى المكتبة العربية.

إن روعة هذا العمل وسحره تكمن فى بساطته وقدرته على النفاذ إلى القلب بالرغم من أن المكان الذى تدور فيه الأحداث هو «لوكيشن» واحد لا يتغير، وهو عبارة عن الحديقة الصغيرة لبيت محمد عفيفى حيث يجلس كل يوم إلى جانب شجراته القليلة يتأمل الكون وينسج من صوت حفيف الأشجار وزقزقة العصافير ورائحة الياسمين دراما تأملية فلسفية تسرى فى الروح وتدغدغ الفؤاد. وهو نفسه قد أشار إلى هذا الكتاب على أنه «ملاحظات فى حديقة مشمسة على نماذج من الحيوان والطير والشجر وبعض بنى البشر لرجل عجوز يجلس على الكرسى القش الأصفر العتيق».

وعلى الرغم من بُعد الشقة بين هذا الكاتب المصرى الساخر والمخرج ألفريد هتشكوك فإنهما يتشابهان فى القدرة على الإبداع فى نصف متر، فبعض أعمال هذا المخرج الشهير تدور فى غرفة واحدة، ورغم ذلك لا يتسلل الملل إلى نفس المشاهد لأن الأسئلة تتوالد فى عقل المتفرج طول الوقت، وهذا نفس ما فعله كاتبنا العظيم وهو يروى فى فصول قصيرة متتابعة عن بعض جلساته فى ظل شجرة التمر حنة التى أسماها تمارا تدليلاً لها. ليس هناك من شخوص يحيطون به فى جلسته الصباحية سوى زوجته التى تدخل الحديقة قليلا وتغيب عنها كثيرا. وإلى جانب الزوجة يوجد جمعة وهو الرجل الذى يخفر الشونة الملاصقة لحديقة البيت ويقوم فى الوقت نفسه بدور الجناينى راعى الشجر والورد فى الحديقة. من أبطال العمل قطة البيت «مونى» التى منحها مساحة طيبة وتبادل معها الحديث والرؤى. يوجد أيضا الكلب الخاص بالغفير جمعة الذى يتسلل أحيانا إلى الحديقة فيثير ثائرة الست أمينة زوجة عفيفى التى ترفض وجود الكلب لأنه نجس!

وبرغم عدم اقتناع صاحبنا الكاتب بحكاية نجاسة الكلب هذه فإنه يخفض للزوجة جناحيه ولا يبدى من القول أو الفعل ما يضايقها، ولم لا؟ أليست الزوجة الأصيلة وحبيبة العمر؟ ألا يكفيها ما هى فيه من حزن لا ينقشع أورد الكاتب سببه بدون استفاضة، وهو موت الابن الذى ذهب للحرب، أو ربما ينبغى أن نقول إن الابن مفقود كما أبلغوهم!. لقد كان من المغرى بالنسبة لكاتب آخر أن يجعل هذا الأمر محور الكتاب، لكن عفيفى مس الموضوع برفق ثم مضى إلى غيره وتركنا نشعر باللوعة المكتومة التى لا يفصح عنها، بينما لا تترك زوجته فرصة إلا وسمحت للدموع بالانطلاق. ومع توافر كل أسباب الحزن فإن الزوجة تستمد أملا من وجود ابنها الثانى حمادة فى أمريكا، بل وتذهب إليه فى زيارة بعد أن أرسل إليها تذكرة السفر ودعاها لتقيم عنده بعض الوقت للاطمئنان على صحتها الآخذة فى التدهور، تاركة زوجها مع أشجاره وطيوره وكرسيه القش.

فى الحديقة يشاهد الفراشة وهى تتغذى على الزهرة ثم ترحل سريعا ويدور فى عقله سؤال: هل تشبع الفراشة سريعا بسبب بطنها الصغير أم تراها طماعة تدور على كل حديقة لتأكل طعاما متنوعا!. يتأمل أيضا القطة التى تركت صغارها بينما كانت ترضعهم وانطلقت لتنقض على سحلية وتأتى بها للصغار وتضعها بينهم ليأكلوها بينما تكتفى بالمشاهدة وهى تقدم لهم أول وجبة بروتين حيوانى بخلاف لبنها!. ولا ينسى الكاتب أن يُطلعنا على حديثه مع الأشجار، ذلك الحديث الذى كان يدفع زوجته أمينة لأن تقول له دائما: ربنا يكملك بعقلك.

من ذلك الحديث سؤاله للشجرة: من أنت.. هل أنت أوراقك أو كتلتك الخضراء؟ لكن سرعان ما ينفى هذا الخاطر لأن الأوراق تصفر وتذبل، ثم يتساءل: هل هى الجذع؟ لكن هذا أيضا لا ينفع لأن الجذع هو الهيكل الخشبى الذى ينقل الغذاء للشجرة الحقيقية، ويمضى متسائلا: هل هى الثمار؟ لكنه يعترض لأن الشجرة لا تختفى بعد أن يأتى على ثمرها، وشجرة الليمون خاصته التى أسماها زهيرة لا تنتفى بعد أن يشرب عصيرها، ويدفعه هذا للتفكير فى أن الشجرة قد تكون هى الجذور، ومع ذلك يسخر من الفكرة لأن الجذور مجرد مخالب تربطها بالأرض، وفى النهاية يضحك على عجزه عن معرفة ماهية الشجرة!.

وبرغم أن الست أمينة كانت هى المريضة فإن عفيفى هو الذى يرحل ويترك الكتاب أمانة فى يد زوجته، وهنا عندى حكاية محيرة رواها لى المهندس إبراهيم المعلم وهى أن عفيفى أوصى بأن يقدم هذا الكتاب إليه (إلى إبراهيم المعلم وليس سواه) وذلك بعد أن تمر سنة على وفاته، وهو ما فعلته زوجته بالضبط. والحيرة التى استبدت بالناشر الكبير انتقلت إلى بعد أن قرأت العمل بإمعان عسى أن أفهم سبب هذه الوصية الغريبة، لكنى مع ذلك أعتقد أن الرجل وهو يخفى أحزانه طوال فصول الكتاب قد أدرك أن هذه الأحزان قد تنكشف وتغرق القارئ إذا ما تم نشر العمل عقب موته مباشرة، فأراد ترك فسحة زمنية تبدد بعض الأحزان.



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك