نقص فى التمويل وتصفية للكفاءات وفضائح تجسس وتعذيب فى السجون وتسريب بيانات خاصة بالأمن القومى
فى كتابه الجديد المعنون بـ«المهمة»، واصل الصحفى الاستقصائى الأمريكى الشهير، تيم وينر، الحائز على جائزة البوليتزر، تنقيبه العميق فى أرشيف وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA)، كاشفًا النقاب عن سلسلة متراكمة من الإخفاقات، ومسلطًا الضوء على الدور الإشكالى الذى لعبته الوكالة منذ تأسيسها وحتى السنوات التى تلت أحداث ما بعد الحادى عشر من سبتمبر، مرورًا بعهد الرئيس الحالى، دونالد ترامب.
وعبر صفحات الكتاب الجديد، عاد «وينر»، الذى ذاع صيته فى أوساط المتخصصين بالشأن الاستخباراتى إثر صدور عمله السابق «إرث من الرماد» والذى تناول فيه تاريخ الوكالة من عام 1947 إلى نهاية القرن العشرين، ليطرح سؤالًا جوهريًا؛ ألا وهو: كيف يمكن لمنظمة تمتلك ميزانية ضخمة، وتقوم بتعيين أكفأ الموظفين، وتستقطب أذكى العقول، وتتمتع بصلاحيات واسعة، أن تحقق هذا السجل المتخم بالفشل؟ الإجابة، كما بيّنها الكتاب، ليست بسيطة، ولكنها وثيقة الصلة بطبيعة العلاقة غير المستقرة بين الوكالة والسلطة التنفيذية فى الولايات المتحدة.
ونقل الكاتب فى افتتاحية الكتاب تعليقًا لافتًا لمعلمه السابق فى هيئة الإذاعة البريطانية، تشارلز ويلر، الذى قال مازحًا ذات مرة بعد حضور حفل بالسفارة الأمريكية فى بروكسل عام 1976: «إن أذكى وأكثر الناس تسلية فى هذه المناسبات هم دومًا رجال الـCIA، وهذا ما يجعل من الصعب فهم كيف يخطئون دائمًا على هذا النحو»، هذه المفارقة تلخص أحد أبرز محاور الكتاب؛ ألا وهو المفارقة العجيبة بين إمكانات الوكالة وإخفاقاتها المتكررة.
وسرد «وينر» عبر الكتاب وقائع وشهادات حصرية، كثير منها ورد على لسان مسئولين سابقين فى الوكالة نفسها، فى سردية تحليلية أوضحت كيف أدت الحسابات السياسية إلى انحراف المؤسسة الاستخباراتية العتيقة عن مهمتها الأصلية، وتحويلها إلى ما يشبه جيشًا سريًا لرؤساء الجمهورية، من «ترومان» إلى «بوش»، بل وحتى «ترامب».
واستعرض الكاتب سجلًّا مليئًا بالمعلومات والشهادات حول أداء وكالة الاستخبارات المركزية، ومآلات سياساتها، وعلاقتها المتذبذبة بالبيت الأبيض، وكما فعل قبل عشرين عامًا فى كتابه الشهير «إرث من الرماد» الذى وثّق فيه تاريخ وكالة الاستخبارات الأمريكية منذ تأسيسها عام 1947 وحتى نهاية القرن العشرين، فقد عاد هنا ليكمل الأحداث ويروى كيف وصلت الوكالة مع نهاية التسعينيات إلى حالة من التدهور تجلى فى نقص التمويل ونزيف الكفاءات وانكشاف عدة فضائح تجسس، ومن بينها أن رئيس إحدى المحطات فى بوخارست كان عميلا للروس، وسلمهم أسماء العديد من العملاء والموظفين التابعين للوكالة.
ولكنّ الإدارة الأمريكية الجديدة التى تسلمت الحكم فى مطلع عام 2001 لم تكن منشغلة بذلك، بل كانت مطمئنة إلى أن البلاد لا تواجه تهديدًا حقيقيًا؛ ففى مارس من العام ذاته، صرّح وزير الدفاع دونالد رامسفيلد لرؤساء أركان الجيش قائلا: «لا تواجه البلاد أى تهديد استراتيجى وذلك لأول مرة منذ عقود طويلة»، ولم تمضِ ستة أشهر على هذا التصريح حتى وقعت هجمات 11 سبتمبر.
ولقد حاولت وكالة الاستخبارات تحذير الرئيس الأمريكى، جورج بوش الابن، من تنامى خطر التيارات الإسلامية المتطرفة، لكن أحدًا فى الإدارة لم يأخذ التحذيرات على محمل الجدد وكان يُنظر إلى الوكالة حينها باعتبارها مؤسسة «معطوبة»، نقلًا عن صحيفة الجارديان.
ولم تقتصر الانتقادات التى تُوجَّه لوكالة الاستخبارات المركزية على الداخل الأمريكى، بل تأتى أيضًا من داخل الأجهزة الاستخباراتية البريطانية، وخاصة جهاز SIS المعروف باسم MI6. وغالبًا ما تحمل هذه الانتقادات نبرة سخرية، لكنها ليست دائمًا مجانبة للصواب. وعلى الرغم من أن الكاتب لم يُعنَ كثيرًا فى هذا الكتاب بالأجهزة الاستخباراتية الغربية الأخرى، فقد نوّه بأن المخابرات الهولندية كان لها حضور ملحوظ فى الأحداث التى يناقشها.
وقال إن إحدى الانتقادات المركزية من جانب الاستخبارات البريطانية هى أن وكالة الاستخبارات الأمريكية تتسم بنوع من «السذاجة المفرطة»، كما بدا جليًّا فى تعاملها مع المخابرات الباكستانية (ISI) أثناء الحرب فى أفغانستان؛ حيث قادتها الـمخابرات الباكستانية بحنكة لتقديم دعم سخى لزعماء ميليشيات كانوا فى الحقيقة معادين للغرب ويخدمون مصالح باكستان وحدها، ولم تستفق وكالة الاستخبارات المركزية إلا بعد أن كشف عملاؤها، عبر وسائل تقليدية بحتة، أن أسامة بن لادن كان يعيش بجوار القيادات العسكرية الباكستانية فى مدينة أبوت آباد.
ولكن جوهر الإشكال، كما يراه كثير من المحللين، يكمن فى أن وكالة الاستخبارات الأمريكية لم يُسمح لها أبدًا بأن تظل جهازًا لجمع المعلومات فقط؛ فمنذ عهد الرئيس الأمريكى «ترومان»، أراد الرؤساء الأمريكيون أن تكون الوكالة بمثابة «جيش سرى»، وهذه فكرة أكد عليها «وينر» مرارًا فى الكتاب.
وقد تجلّى ذلك بشكل واضح قبل فضيحة «إيران ــ كونترا» فى ثمانينيات القرن الماضى، حين قامت إدارة الرئيس الأمريكى «ريجان» ببيع الأسلحة لإيران واستخدمت العائدات فى تمويل حرب عصابات غير شرعية فى نيكاراجوا، عبر وكالة الاستخبارات الأمريكية ذاتها رغم التحفظات الأخلاقية التى أبداها بعض موظفيها وحتى بعض قادتها.
وتحدث «وينر» أيضًا عن كيف أن وكالة الاستخبارات قبلت تنفيذ سياسات التعذيب فى السجون التى أقرّها الرئيس «بوش» الابن، بناء على رأى قانونى ضعيف من محامٍ شاب فى البيت الأبيض يُدعى جون يو، والذى أفتى بأن الإيهام بالغرق، والحرمان المطوّل من النوم، وتعليق الأسرى من أذرعهم لساعات «ممارسات عادية» لا ترقى إلى مستوى التعذيب.
واعترف الكاتب بأن موظفى الوكالة امتثلوا لهذه السياسات أحيانًا بحماس، ومع أن «وينر» انتقد تلك الممارسات بوضوح، إلا أنه كان يميل إلى منح الوكالة بعض العذر، حيث قال: «إن الـCIA فى مجملها لم تكن فيلًا هائجًا، وفى أغلب اوقات الأزمات لم يكن الفيل هو الملام، بل سائسه – أى رئيس الولايات المتحدة».
ولكن هذا التفسير فى الكتاب لم يبدُ كافيًا لتبرير أفعال بعض الأفراد مثل جينا هاسبل، التى أشرفت بنفسها على أحد السجون السرية، ثم أصبحت لاحقًا أول امرأة تتولى قيادة الوكالة. وعلى الرغم من أن «هاسبل» لم تُدلِ بتصريحات مباشرة للكاتب، إلا أن مصادره – التى تشمل شخصيات بارزة من داخل الوكالة – قدّمت معلومات حاسمة، ومنها تفاصيل جديدة عن علاقة «ترامب» ببوتين خلال انتخابات 2016، وتؤدى هذه المعلومات إلى خلاصة واضحة وهى أن «ترامب» كان بمثابة «الأحمق المفيد» للرئيس الروسى.
ومن بين الأحداث المروعة التى نقلها الكتاب، إقدام مدير الاستخبارات فى عهد «ترامب»، جون راتكليف، على إرسال قائمة بأسماء وتفاصيل موظفى الوكالة الجدد إلى البيت الأبيض عبر بريد إلكترونى غير آمن، بناء على طلب مباشر من الرئيس، وهو ما يُعد خرقًا أمنيًا صارخًا وغير مسبوق، ولم يكن «راتكليف»، كما أشار الكتاب، أكثر من منفّذ مطيع لرغبات «ترامب» الغريبة.
وصحيح أن «ترامب» أضر كثيرًا بالوكالة، إلا أن «وينر» أشار إلى أن الرئيس الروسى «بوتين» أيضًا لم يجنِ كل ما طمح إليه من وجود «ترامب» فى البيت الأبيض؛ فقد خسر الكرملين نفوذه فى سوريا، وتراجعت قدرة إيران – الحليف الاستراتيجى لموسكو – بعد الهجمات الإسرائيلية المكثفة، فيما وقفت أوكرانيا، بدعم من الـCIA، صامدة فى وجه الاجتياح الروسى عام 2022، خلافًا لتوقعات كثيرين، بل إن الوكالة لعبت دورًا بارزًا فى كشف نوايا الغزو الروسى مسبقًا ومحاولة منعه.
أما السؤال الذى ظل معلقًا بعد قراءة هذا الكتاب، فهو: هل تستطيع وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية استعادة وظيفتها الأصلية كمؤسسة لتحليل المعلومات، دون أن تظل مجرد أداة فى يد الرئيس؟ وهل يمكن إصلاح مؤسسة أرهقها التسييس وسوء الاستخدام؟
وفى الختام، وجب التنويه أن كتاب «المهمة» ليس دراسة أكاديمية، بل عمل صحفى استقصائى مكتوب بلغة صريحة ومشحونة بالغضب مما آلت إليه الأمور؛ وهو ثمرة تجربة صحفية طويلة، ويعبّر عن صوت من داخل المجتمع الاستخباراتى نفسه، لا من خارجه.