ابنًا لخباز.. وسريع الغضب.. ووجد في الشعر ضالته التي قادته إلى الإبداع..ما لا يعرفه العامة عن هانيبال السينما العالمية
صدر حديثًا للممثل البريطاني الأسطوري أنطوني هوبكنز كتاب مذكرات بعنوان «لقد أبلينا حسنًا، يا صغيري»، عن دار نشر "سايمون وتشوستر"، استعرض "هوبكنز" من خلاله رحلته من طفولة وحيدة في مدينة بورت تالبوت في ويلز إلى أدواره السينمائية الخالدة، بما فيها شخصية الدكتور هانيبال ليكتر الشهيرة في "صمت الحملان"، مع الكشف عن ملامح شخصيته الفنية والفكرية ونظرته العميقة للحياة والفن.
ويبدو أن كل شيء في السيرة الذاتية الجديدة - والتي تربعت على قوائم أمازون للمبيعات فور صدورها - يدور حول سؤال واحد: كيف يتحول طفل خجول ووحيد من مدينة ساحلية صغيرة في ويلز إلى أحد أعظم الممثلين في تاريخ السينما؟
افتتح الكاتب حديثه بمشهد لا يُنسى من فيلم "صمت الحملان"، حين تظهر شخصية الدكتور هانيبال ليكتر للمرة الأولى في أكثر دخول مهيب في تاريخ السينما، واقفًا بلا حركة خلف الزجاج العازل. هذا المشهد وحده كان كافيًا ليصنع من "هوبكنز" أسطورة سينمائية، ويمنحه الأوسكار عام 1989، رغم أنه لم يكن مجهولًا حينها، بل ممثلًا مخضرمًا اكتملت فيه ملامح النجم الكبير.
وفي مذكراته الجديدة، كشف "هوبكنز" عن مصادر إلهامه في بناء شخصية "ليكتر": من دراكولا الذي جسّده الممثل الهنجاري بيلا لوجوسي، إلى الزعيم السوفيتي السابق جوزيف ستالين كما روته ابنته، وصولًا إلى أستاذه الصارم في الأكاديمية الملكية للفنون المسرحية - وهي واحدة من أشهر مدارس التمثيل في العالم وتقع في لندن - كريستوفر فيتس.
كما تحدث "هوبكنز" بصراحة عن الظلال النفسية التي رافقته أثناء تجسيد شخصية الملك لير، والمتصلة بعقدة الذنب تجاه ابنته المنقطعة عنه، أبيجيل، من زواجه الأول الذي انتهى بشكل مأساوي عام 1966، كما ورد عبر صحيفة الجارديان.
وحمل عنوان المذكرات قصة بحد ذاته؛ فهو مستوحى من صورة قديمة لهوبكنز وهو طفل في الثالثة من عمره على شاطئ أبرآفون مع والده، ومن هذا الطفل الحائر، ابن الخباز ريتشارد آرثر هوبكنز، تنبع الحكاية كلها، كان الأب، رجل عملي صارم، كاره للرياء الديني، يخفي خلف ملامحه الخشنة حساسية رومانسية دفينة، وكان يحتقر الحاجة لمد اليد إلى الأقارب الأغنياء من أجل تعليم ابنه، لكنه فعلها رغمًا عنه، ليسمح لابنه بالدراسة في مدرسة أرقى.
ولم يكن "هوبكنز" طالبًا متفوقًا في المدرسة، إلى أن ألقى بالصدفة قصيدة للشاعر الإنجليزي جون ميسفيلد، فانبهر الحاضرون بصوته، من هنا بدأ كل شيء: القصيدة أشعلت الموهبة، والمسرح منحها الشكل الفني لتتبلور وتنمو، ومن خلال نادي YMCA المسرحي، انطلق الفتى الفقير في طريقه إلى خشبة المسرح، ليقف بعد عشر سنوات فقط أمام الممثل المسرحي البريطاني لورنس أوليفييه على مسرح "أولد فيك" العريق، وهو يعتبر أحد أعظم ممثلي المسرح والسينما في بريطانيا في القرن العشرين.
وقال "هوبكنز" إنه برغم بدايته الواعدة، إلا أنه غادر المسرح في نوبة غضب، ليجد طريقه إلى التلفزيون ثم إلى السينما، مؤديًا أدوارًا مؤثرة في "الرجل الفيل" و "بقايا اليوم" و"الأب" الذي منحه أوسكاره الثاني، وبين كل هذه المحطات، مثّل عام 1975 نقطة تحول كبرى في حياته حين أقلع عن الكحول وأنقذ نفسه من الضياع.
ولم يكتفي الكتاب الجديد بسرد المسيرة الفنية الحافلة، بل رسم ملامح شخصية متناقضة: ممثل منضبط إلى أقصى الحدود، وفي الوقت نفسه حاد الطباع وعصبي وسريع الغضب، وهي ملامح من شخصيته ربما لا يعرفها الكثير من العامة، كما روي كيف تصدى لأحد المخرجين أهان ممثلة شابة أمام الجميع قائلاً له: "اعتذر لها فورًا، وتعلم بعض الأدب، وإلا سأعيد تشكيل وجهك."
وفي ختام المذكرات، قدم "هوبكنز" ملحقًا طويلًا ضم قصائده المفضلة، اعترافًا منه بأن الشعر كان أول حب في حياته من بين كل أنماط الأدب، والبذرة التي أنبتت كل هذا الإبداع؛ فبالنسبة له، كانت القصائد — بحكمتها وإيقاعها — هي المعلم الأول والأصدق الذي قاده من صمت الطفولة إلى مجد السينما.
ورغم أن المذكرات تبدو في ظاهرها مجرد رحلة شخصية لممثل عالمي، إلا أن رؤية "هوبكنز" تتجاوز السيرة الذاتية لتكشف عن فلسفته في الحياة والفن: الانضباط الصارم، الحب العميق للشعر، ومقاومة الضعف البشري، وقد عكس الكتاب نزاعه الداخلي بين القوة والضعف، الطفولة والوصول إلى النجومية، وأبرز كيف يمكن للموهبة أن تتفتح رغم الصعاب والظروف القاسية.
وفي الختام، فإن "هوبكنز" قد منح القارئ نافذة على عقليته المبدعة وأسلوبه في العمل، مقدّمًا نموذجًا لممثل يتعامل مع الفن باعتباره التزامًا شخصيًا عميقًا، وليس مجرد مهنة، ومن خلال هذا المزج بين الصراحة في الحديث عن الأخطاء الإنسانية والاعتراف بالنجاحات الفنية، قدم الكتاب درسًا في الصبر والمثابرة والإصرار على الذات، ليصبح أكثر من مجرد مذكرات، بل مرجعًا لفهم شخصية فنية نادرة، وقدرتها على الجمع بين العبقرية والانضباط والتأمل الذاتي.