كان 2019 - «حياة خفية».. نموذج للضمير السينمائي في «مهرجان كان» - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 1:45 م القاهرة القاهرة 24°

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

كان 2019 - «حياة خفية».. نموذج للضمير السينمائي في «مهرجان كان»

رسالة كان ــ خالد محمود:
نشر في: الإثنين 27 يناير 2020 - 2:32 م | آخر تحديث: الإثنين 27 يناير 2020 - 3:06 م

"الشروق" تعيد نشر هذه الرسالة، وسبق ونُشرت لأول مرة في تغطية مهرجان كان السينمائي في دورته 72 في مايو 2019

 

المخرج الكبير تيرانس ماليك يبهر الجميع بفيلم عن فرانز شتاتر الذى قال «لا» لهتلر ويكشف تواطؤ الكنيسة فى قتل الأبرياء
القصص الإنسانية للحرب العالمية تفرض نفسها على صناع السينما الكبار وتدعو من جديد للتفكير فى إهدار البراءة فى ساحات المعركة
الفيلم يتطلب من المشاهد جهدا بصريا وفكريا لمتابعته.. وأداء مبهر لبطل يستحق التقدير
لا تزال القصص الإنسانية للحرب العالمية تفرض نفسها على صناع السينما الكبار، ومنهم المخرج والكاتب الكبير والرائع والموهوب تيرانس ماليك الذى شارك فى المسابقة الرسمية للمهرجان بفيلمه الجديد «حياة خفية» A Hidden Life.

الذى يروى القصة الحقيقية لفرانز جاجر شتاتر، النمساوى الذى فرض عليه ضميره رفض المشاركة فى تدريبات عسكرية للمشاركة فى الحرب العالمية الثانية عندما استدعاه جيش هتلر للتدريبات، ورفض أن يقسم ولاءه لهتلر، أو لدعم المجهود الحربى بأى شكل من الأشكال، ودفع الثمن حياته عن طيب خاطر لموقفه ضد النازيين، الذين أظهرهم المخرج أشرارا قساة القلب، وكانت البداية عندما رفض فرانز أداء التحية الشهيرة لهتلر فى الطابور العسكرى، لينقل إلى السجن ويواجه أشد أنواع التعذيب.

عندما ترى النازيين أشرارا، فنادرا ما تكون هناك حاجة ماسة لتفسير معارضة أى شخص لهم.. فقط هناك نبض وسلوك إنسانى لعدم الوقوع فى ذلك الطرف المعادى للحياة، تلك هى الصورة البراقة التى قدمها المخرج على اتساعها فى سياق درامى محير، ويطرح تساؤلات طوال الوقت داخل المشاهد الذى يلمس المصير المظلم لبطلنا، فأحيانا تشعر أن قراره بالرفض يبدو خطأ لتجنب نهاية بالفناء، وأنه ربما ينجو ويعود سالما لأسرته، وأحيانا تنحاز لموقفه وتنتهج مبدأه إذا كنت كارها للانضمام لصفوف طغاة.

يبدأ الفيلم بمشهد استهلالى قوى يظهر فيه شريط الأخبار بالأبيض والأسود فى ذلك الوقت يصعد الفوهرر محييا الشعب ويسير نحو الحرب، ثم يستقر الفيلم فى منطقة رائعة فى شمال النمسا؛ حيث يعيش فرانز وزوجته «فاليرى باشنر» وطفلتاه وأمه والجميع يعمل يوميا بالزراعة والحصاد، فى جزء من جبال الألب وكم كانت الحياة هادئة بصورة كلاسيكية للحقول ونمط الحياة والتى رسمها ماليك بصحبة كاميرا مدير التصوير يورج، وذات صباح وفى موسم الحصاد تستلم الأسرة خطاب استدعاء فرانز لأول مرة من قبل الرايخ للتدريب العسكرى، فى عام 1940، وهنا تبدأ الأمور فى التعقد، ويبدى فرانز مخاوفه لقس المدينة «توبياس موريتى» عندما يذهب إليه طلبا للمساعدة، ليكتشف أن الكنيسة التى يحترمها أصبحت متواطئة فى جريمة «قتل الأبرياء» بعد أن يحذره القس بشدة من أنه قد يطلق عليه النار للاعتراض، ويقول له: «تضحياتك لن تفيد أحدا»، ويجادل فرانز القس، «إذا أعطانا الله الإرادة الحرة، فنحن مسئولون عما نفعله».

فرانز هو الرافض الوحيد لتلك المسألة، ويظل فى حالة صمت دون أن يخبر عائلته بنواياه، ويأخذه. العسكر، فى مشهد وداع رائع؛ حيث تمسك زوجته بيده وهو داخل قطار الترحيلات وتجرى مع القطار برصيف المحطة، فهى تدرك أن حياتها ستنقلب رأسا على عقب برحيله، وفى أول طابور يرفض أداء التحية العسكرية، ويلقى به فى السجن، ويحققوا معه ولم ينطق أو يغير موقفه تجاه الحرب والخدمة العسكرية حتى عندما علم أن هذه جريمة يعاقب عليها بالإعدام، وعلى مدى ثلاث ساعات بين شد وجذب لم يمنحه ماليك الفرصة لشرح تفكيره فى نظرية الرفض، بل وجعله صامتا معظم الوقت فى نهج وسرد سينمائى يخص مخرجنا نفسه، وكانت أنفاس المشاهدين فى انتظار لحظة حوار يعبر فيها فرانز لماذا يرفض، حتى عندما أتت زوجته فى محاولة من المسئولين العسكر إقناعه بتبرير موقفه. أو تغييره، لم يتكلم، لتدرك زوجته المصير ولم تضغط عليه فهى تحبه ولا تريد كسر مشاعره وجرح مبدأه وقراره.

وقد أدركنا سلوك فرانز شتاتر الحقيقى من وازع دينى وأخلاقى لرفضه الانضمام إلى فريق هتلر. وكذلك تردده الحاد فى مناقشة الأمر مع زوجته وعائلته، فقط أظهر اضطراباته الداخلية وشعوره بالوحدة. وهو فى السجن ونبذ الآخرين لزوجته. فى القرية.

فى كثير من اللحظات شعرنا أننا أمام فيلم ميلودراما صامت فى بنائه، وكأننا فى مواجهة قصة صراع داخلى مكثف، وبحلول عام 1943، كان لدى الرايخ ما يكفى من عناد الرجل وتم نقله إلى سجن عسكرى؛ حيث تنتظره المقصلة. ونرى فى مشهد صعب وقاسٍ وبعد الحكم بالإعدام يصور ماليك كيف يتم قطع الرءوس؛ حيث يقوم النازيون بتنظيف آلة القتل والأرضية من دماء من تم ليتم النداء على التالى، وكان الدور على فرانز جاجير شتاتر الذى أعلن البابا بنديكتوس أنه شهيد.

نحن هنا مرة أخرى فى مهرجان كان السينمائى؛ حيث يقدم تيرانس ماليك أفضل فيلم له منذ «شجرة الحياة»، طارحا. أسئلة صعبة حول الإيمان الشخصى فى عالم ضل طريقه بتلك الملحمة الدرامية كلغة ضمير سينمائى، فى فيلم حياة خفية لا توجد ساحات قتال ــ فقط حقول القمح ــ لا توجد أهوال فى معسكرات الاعتقال، ولا توجد غارات مثيرة فى منتصف الليل. لكننا لا نخطئ فى أن هذا فيلم حرب. إن المعركة التى تظهر هنا هى معركة داخلية بين مسيحى وضميره. العودة المفعمة بالحيوية من أحد مؤلفى السينما الكبار، تلك مسألة تثبت حق النزاهة الشخصية على الاشتراكية الوطنية، مع التركيز على القصة الحقيقية لرفض المزارع النمساوى فرانز ياجر شتاتر لأدولف هتلر ورفضه الخدمة فى ما يراه حربا غير عادلة.

يبدو ذلك وكأنه لوحة جمالية أكثر قوة من أحد المخرجين الذين يمكن أن تشعر بأن أحاسيسهم فى بعض الأحيان وكأنها محاكاة ساخرة لنفسه إذا وضع فى موقف البطل، دون التقليل من ملايين الأرواح التى فقدت خلال الحرب العالمية الثانية، فماليك يقدم دعوى لإعادة التفكير فى مخاطر هذا الصراع ــ أصداء يصعب تجاهلها فى السياسة المعاصرة ــ أو بعبارة أخرى فى مصير روح رجل واحد فى الساحة رفض ونبذ وسجن وأعدم فى النهاية بسبب قناعاته، وهو ما نجح فى أدائه القوى والعميق الممثل النمساوى أوجست ديها الذى كان يستحق أيضا جائزة التمثيل لكنها ذهبت لانطونيو بانديراس.

الفيلم الذى يشبه السيرة الذاتية يعيد ماليك إلى عالم السرد الخطى الأكثر تقليدية، لنماذج من حياة بشر، ويمكن اعتبارها استمرارا للمواضيع التى أثيرت فى عام 1998 مثلما. جاء بفيلمه المدهش فى التفكير «الخط الأحمر الرفيع»، والتى تناول ايضا اسئلة وجودية أثناء الحرب العالمية الثانية، حيث ركز ماليك على مدى عدم ملاءمة مجموعة من المشاة الأمريكيين لدور القتال، مختلطا بمونولوجياتهم الداخلية ووجوههم الحائرة ومصيرهم وسط المعركة فى إشادة مأساوية بإهدار البراءة التى كانت فى الحرب. حتى وان كان فى «حياة خفية» صور القرار الاستباقى الذى يتخذه جندى واحد محتمل بعدم الخضوع لسفك الدماء.

ماليك الذى كتب السيناريو ايضا قدم اطول افلامه «٣ ساعات» تم تصويره فى عام 2016، استغرق عامين ونصف العام لاستكمال مونتاجه. وجاءت النتيجة مبهرة، سواء على الصعيد البصرى أو على مستوى الرؤية الإخراجية. فقد انطلق ممن تلك القصة الواقعية القاسية وعلى خلفية هذه القصة، اتخذ المخرج من الريف النمساوى، الذى منه هذا الجندى، معادلا موضوعيا لقيم الخير والتسامح، التى يعتقد بأنها راسخة بالسليقة فى الطبع البشرى، وأن الحضارة الغربية هى التى شوهت هذا الطبع وزرعت فيه بذور الشر. وهى الفكرة التى تشكل لازمة فى أعماله كافة، وبشكل أخص فى رائعتيه «حصاد السماء» و«شجرة الحياة».

ومع العلم أن الفيلم طويل (أكثر من 3 ساعات) وشاق للغاية، إذ يتطلب من المشاهد جهدا بصريا وفكريا، إلا أن الجمهور فى كان وقف فى طوابير طويلة لمتابعة كل عروض الفيلم، كما حظى بحفاوة نقدية كبيرة.



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك