أحمد القرملاوي يكتب عن «الباقي من الزمن ساعة»: في أدب نجيب محفوظ يتقاسم الحكام أدوار البطولة مع البشر المنسيين - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 4:45 ص القاهرة القاهرة 24°

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أحمد القرملاوي يكتب عن «الباقي من الزمن ساعة»: في أدب نجيب محفوظ يتقاسم الحكام أدوار البطولة مع البشر المنسيين


نشر في: الجمعة 29 مايو 2020 - 6:37 م | آخر تحديث: الجمعة 29 مايو 2020 - 6:37 م

ــ محفوظ يسجل شهادته عن مجد الوفد وإخفاقاته.. ويلوم الحكم الناصرى ويدين السادات وانفتاحه الاقتصادى
ما فائدة الأدب؟ سؤال لا يزال يتردَّد على ألسِنة القراء، أتعدو فائدته متعة الحكى وإشعال الخيال بالأحداث والشخصيات؟ وثمة إجابة تشير لكون الأدب تأريخًا موازيًا لرحلة الإنسان، ففيما يسجِّل التاريخُ قصة الإنسان من منظور الحاكم، يدوِّن الأدب نفس القصة من منظور الفرد.. فى الأدب، ينتزع البشر العاديون أدوار البطولة فى قصة الإنسانية، فيما لا يظهرون فى كتب التاريخ بعيدًا عن الثورات.. أما نجيب محفوظ فيقوم بالشيئين معًا، أو بالأحرى يفعل الواحدة عبر الأخرى، فيتقاسم فى أدبه الحُكام أدوار البطولة مع البشر المنسيين، فنعرف قصة أولئك من خلال هؤلاء.
تُعد روايته «الباقى من الزمن ساعة» أحد أبرز الأمثلة على هذا الملمح الهام، وفيها تمتد الأحداث من العام 1936 وحتى 1981، أى منذ جلوس الملك فاروق على عرش مصر فى ظروف مضطربة شهدت تحولات جسيمة فى تاريخ مصر المعاصر، وحتى نزول الرئيس السادات عن ذات العرش بعد حادثة اغتياله، التى ختمت فترة زاخرة بالاضطرابات والتحولات الجسام؛ إنه التاريخ المضطرب الذى عايشه محفوظ، ورأى أن يسجِّل عليه شهادته أدبًا وتأريخًا.
تبدأ الرواية بالصورة المعلَّقة فى حجرة المعيشة فى البيت الكبير، والتى يعود تاريخها لعام 1936، أيام الهناء والاستقرار فى حياة أسرة حامد برهان، موظف التلغراف الوفدى، وسنية المهدى، ست البيت المصرية الحنون والمدبرة، صورة رحلة القناطر الخيرية، حيث الوئام وراحة البال، يتوسطها الأب ــ حامد ــ وتحف به الزوجة والأبناء: كوثر قليلة الحظ من الجمال والتعليم، ومحمد الذى درس القانون وصار محاميًا إخوانيًّا مجافيًا بذلك وطنية أبيه الوفدى واعتدال أمه الدينى، ومنيرة المحظوظة فى الجمال والتعليم، التى تترقى فى الوظيفة حتى تصير ناظرة لمدرسة للبنات، ورويدًا يسحبنا السرد المنساب بلا فواصل ولا فصول، كأنه انسياب الزمن فى تدفق لا يعبأ بما يطرأ من تحولات وصراعات، لينتهى بنا عند مشهد العاصفة الرعدية بعد مقتل السادات، ويتركنا معلَّقين لا نعرف ما ينتظر العائلة فى الساعة الباقية التى يشير إليها العنوان.
أبدًا لا يعفينا محفوظ من تأمل رموزه وإسقاطاته، فهو يُضمِّنها بقدر يصعب معه التجاوز عنها، بل ويحدِّدها بهالات فسفورية تجعل من التغاضى عنها هربًا من تتبع مقاصد النص، فسنية ليست سيدة مصرية فحسب، بل تكثيفًا لعموم المصريين فى شخص امرأة ذات أصول ممتدة وتاريخ غير راكد، كما تصف نفسها، تحوَّل جدُّها من المسيحية القبطية إلى الإسلام، وحازت نصيبًا محدودًا من التعليم استكملته بثقافة وتدين معتدل لا يخلو من التعلُّق بالأساطير وكرامات الأولياء، لا يشغل بالها همٌّ قدر المحافظة على البيت ــ الوطن ــ وإعادة الحياة لحديقته التى «شغلَت الأرض الرملية أكثر سطحها»، كما يصفها السارد. هل ثمة تكثيف أدق لعموم المصريين؟
كما أن حامد ليس موظفًا وفديًّا وانتهى الأمر، بل إنه إيجاز للحركة الوفدية وشهادة محفوظية لما لها وما عليها.. حامد الذى يفاخر بإنجاز وحيد هو تحريضه لزملائه الموظفين على الانخراط فى ثورة 1919، الذى يُحال إلى المعاش مع إقالة حكومة الوفد، ومع رجوع الوفد «يصعد حامد برهان إلى العرش من جديد» (ص 37)، فى رحابه يجتمع الأصدقاء لمناقشة الأوضاع السياسية والحديث عن الحرية والديمقراطية، ومن جذره ينبت الابن الإخوانى، والابنة ناصرية، والأخرى غير المنشغلة بغير ذاتها ومستقبل ابنها.. إنه الوفد الذى التحم مع عموم المصريين ــ سنية ــ وبسط مظلته الليبرالية التى تتسع لمختلف الفصائل ــ أبنائه ــ انطلاقًا من أرض الوطنية الصلبة، الوفد الذى بلغ أوج نجاحه فى ثورة 1919 وقمة استقراره بعد عقد معاهدة 1936ــ صورة الأسرة الهانئة فى صالة المعيشة ــ وهو ذاته الوفد الذى تردّى بعد ذلك متخبطًا فى الإخفاقات، وتداعى تمامًا إبان الحرب العالمية الثانية ــ إحالة حامد للمعاش ــ بل واتُّهِم بالخيانة والاصطفاف مع الإنجليز يوم عاد إلى الحكم مدعومًا بدباباتهم ــ زواج حامد بميرفت ذات الأصول الأجنبية وطرده من بيت سنية ــ حتى خرجَت الأمور عن سيطرته بعد إلغاء المعاهدة واحتدام الصراع بين الشعب والإنجليز وصولًا لحريق القاهرة ــ مرض حامد وسقوطه فى بيت زوجته الأجنبية.
إذًا فمحفوظ يسجِّل شهادته كاملةً عن الوفد، الذى لم يتخلَّص أبدًا من محبته لرموزه، وها هو يسجل فى الرواية الصورة الأكثر اكتمالًا لجنازة الزعيم مصطفى النحاس، وينتصر فى ذات الوقت لعموم المصريين، ممثلين فى الست سنية، الذين ظلوا على وفائهم للوفد برغم الإخفاقات.
ومن أبناء حامد وسنية تمتد الفروع كل فى اتجاه؛ كوثر غير المسيَّسة تنجب وحيدها رشاد، الذى يصير ضابط جيش ويخسر ساقيه فى معركة التحرير، إنها التكثيف الأوضح لجموع المصريين غير المسيَّسين، الذين تحمَّلوا ضريبة الفداء لاستعادة الأرض، فاستمرَّت مع ابنها فى البيت الكبير ــ الوطن ــ بل وعَمِلا على إصلاحه وإعادة الحياة لحديقته. أما محمد عضو الإخوان المسلمين، فينجب شفيق وسهام، فيمضى الأول فى طريق أبيه بعد مغامرة سرية مع زكية محمدين، فيما ترفض الثانية الارتباط بابن عمتها رشاد ــ الجيش ــ وتميل لكفة عزيز صفوت ــ اليسار ــ وتتشبع بأفكاره الماركسية عن الحرية والتقدمية التى تهدم القيم والأعراف البالية، فتقيم علاقة مفتوحة معه حتى يلقى حتفه فى المظاهرات ــ تقويض السادات للحركات اليسارية ــ بينما تتعلق منيرة، صغرى أبناء حامد وسنية، بسليمان بهجت الناصرى مثلها، والذى يستفيد من كون أخيه عضوًا فى تنظيم الضباط الأحرار، فيرقى فى مراتب المال والأعمال حتى يخونها مع الراقصة زاهية، التى تصبح سيدة أعمال فى عصر الانفتاح، فيما تعكف منيرة بإخلاص على عملها وتربية ابنيها، على وأمين، فينشأ أمين ناصريًّا مخلصًا مكافحًا مثل أمه، بينما ينكب على على ذاته ويقيم علاقة مع أرملة جده حامد الأجنبية.. إنه تجسيد لجيل غير منتمٍ يطمح للهجرة والالتحام بالغرب الأكثر تقدمًا.
ومن تلك التفاصيل المجدولة بمهارة وصنعة يصعب مضاهاتها، يمكننا استشفاف الشهادة المحفوظية على التاريخ الذى عاشه بعقله ووجدانه معًا؛ يشير لإخفاقات الوفد التى عزَّزت الفُرقة بين الأجنحة المتصارعة: الجيش، الإخوان، اليسار، يحاكم الناصرية التى جرَّت الوطن لحروب طحنت هامات الناس، وزاوجَت بين المخلصين من أمثال منيرة والانتهازيين أمثال سليمان بهجت، فأنتجَت نماذج فى غرابة على لا تعترف بقيمة ولا تهتم باستعادة أرض، بل ترمح خلف حلم الهجرة ولو عن طريقها الأكثر شذوذًا ــ علاقته بمن فى سن جدته، يتهم الإخوان الذين تسبب تشددهم وانصرافهم عن أجندة الوطن فى تشتيت الشمل واندفاع أجيال لاحقة صوب هدم الأعراف القديمة (سهام وعزيز صفوت)؛ كما ينحاز للسادات وسعيه لإقرار السلام وإنهاء حالة الحرب، وإن كان يُدينه لانتهاجه سياسة الانفتاح، التى أثقلَت كواهل الناس وأخلَّت بتركيبة المجتمع (سليمان وزاهية وزكية محمدين).
ينحاز محفوظ للجيل الأخير، جيل النكسة والهجرة والفداء واستعادة الأرض، الجيل الذى تحمَّل أعباء من سبقوه، لكن يظل انحيازه الأكبر لعموم المصريين؛ سنية التى تتمسك بالبيت ولا ترضى ببيعه مهما أبدى الأحفاد من أسباب مقنعة، بل تترقب الفرص لإصلاحه وإحياء حديقته. وبعد، هل يُنهى شهادته برؤية قاطعة؟ بل العكس، فالسماء ملبدة والرعد يرج البيت القديم، والباقى من الزمن لا يعدو ساعة، هى ساعة الحسم، فإما يحسم المتشددون المعركة بعد اقتناصهم رأس السادات، وإما تلتئم شظايا العائلة حتى تنقشع الغيوم وتصفو السماء.

ــ الرواية متاحة للشراء فى فروع مكتبات الشروق وعبر موقعها الإلكترونى



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك