الأوروبيون أرستقراطيون لا ديمقراطيون! - أكرم السيسى - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 2:44 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الأوروبيون أرستقراطيون لا ديمقراطيون!

نشر فى : الأحد 1 يناير 2023 - 7:50 م | آخر تحديث : الأحد 1 يناير 2023 - 7:50 م

لم تكن جائحة كورونا عام 2019 وباء فقط أصاب صحة البشر فى كل أركان المعمورة، وأثبتت عوار المنظومة الصحية العالمية، ولكنها كانت إرهاصة بسقوط نظم سياسية ونظريات اقتصادية وفلسفية..، وعليه وجب تعديل فكر الإنسان المعاصر وإصلاحه.
كانت الجائحة تهديدًا مباشرًا لوجود البشرية، كشفت عن ضعف الإنسان، وأن العلم بدون أخلاق آثاره التدميرية لا تقل كثيرًا عن تأثير القنبلة النووية، فما زالت أسباب نشأة فيروس كورونا غير معروفة؛ تارة نسمع أنه مُخَلَّق من بعض العلماء لينضم إلى قائمة عناصر الحرب البيولوجية كالقنبلة «القذرة» التى يُهدد بها طرفا الصراع فى حرب روسيا/أوكرانيا، وتارة أخرى نسمع أنه بسبب تخريب طبيعة الإنسان بالتعدى على المحرمات من المأكولات كأكل الخفافيش والحشرات..، وتارة ثالثة بسبب تدمير الإنسان للطبيعة وتلويثه للبيئة بالإفراط فى إخراج النفايات الصناعية، هكذا يقوم الإنسان بتدمير نفسه باسم الحرية والتقدم العلمى دون اهتمام بالقيم والأخلاق، والاستهتار بالأديان وشرائعها!
يتفاخر الغرب بأنه يُناصر حقوق الإنسان، ويدَّعى أن الحريات أهم عنصر فى نظامه السياسى «الديمقراطى» يسمح له بتحقيق أهدافه، وقبل التطرق لكيفية مُناقضة الغرب لنظامه الديمقراطى، يهمنا أن نلفت نظر القارئ الكريم إلى أننا نجد فى التاريخ البشرى نوعين من نظم الحكم التى تضع قيمة لرغبات الإنسان فى اختياره لمَن يحكمه؛ يُسمى الأول «ديمقراطى»، وأصوله إغريقية ورومانية، ويعطى الحق للمواطن أن يختار مرشحا ويرفض آخرين، وأهم مفرداته: «بطاقة التصويت» التى تُمنح لكل فرد للتعبير عن رغبته فى سرِّية تامة، و«صندوق الانتخابات» الذى تُجمع فيه بطاقات التصويت لتحديد الفائز بتولى الحكم أو الإنابة عن الشعب فى المجالس العمومية مثل البرلمانات والمحليات...
وأما النظام الثانى، يعتمد على «البيعة» ويُعبَّر عنه حاليًا بـ«الاستفتاء»، وأصوله عربية، ويعتمد على التصويت الجماعى لصالح شخص مُعَّين تُرشحه جماعة أو الهيئة البرلمانية المنتخبة من الشعب فى العصر الحديث، وكان معمولًا به فى فرنسا حتى نهاية الجمهورية الرابعة (1958)، وفى مصر قبل تعديل الدستور فى 2005م، إلا أن العصر الحديث استحسن النظام الديمقراطى لما فيه من تعظيم لقيمة الفرد، واقتصر صوت الجماعة على المجالس العمومية المنتخبة التى تمثلت فى ثلاث مؤسسات: التشريعية (البرلمان) والتنفيذية (الحكومة)، فضلا عن السلطة القضائية التى تفصل فى النزاعات بينهما، وذلك لتجنب احتكار السلطة فى يد فرد واحد أو مؤسسة واحدة.
• • •
وبالعودة لكيفية مُناقضة الغرب لنظامه الديمقراطى، وتفاخره بالدفاع عن الحريات المطلقة، نرى أنه يبالغ فى مفهومه للحرية، بل إنه يعمل على إفسادها وتشويه معناها الصحيح، ويحولها إلى «فوضى»، هكذا يعمل فلاسفة العصر من الوجوديين والملاحدة وغيرهم كُثر على إقناع البشرية بأن الإنسان «سيد الكون»، وأن «جسد الإنسان» ملك له، وعليه يكون من حقه العبث فى جسده كيفما شاء، وتنظيم حياته بمفرده دون أى مرجعية أخلاقية أو عقيدة دينية، ولو كان الإنسان سيد نفسه – كما يدعون ــ لخلق نفسه، بينما هو وكل الكائنات الأخرى على الأرض وتحت السماء وفى أعماق البحار وفى الفضاء... مَخلوقة من قوة أعظم منه بكثير، تعلم علم اليقين طبيعة الإنسان والكون والكائنات الحيّة والجامدة وكيفية التعامل معها، وكذلك العلاقات البينية بعضها ببعض، وأى انحراف عن طبيعة كل هذه المخلوقات يُعد تدميرًا للإنسان ولما يُحيط به، فالحرية قانون ومسئولية وإلا – كما سبق القول ــ أصبحت فوضى، وبالتالى إفساد وتدمير وتخريب...، وهذا ما يتوجه إليه العالم الغربى!
فى الحقيقة، يقوم الأوروبيون بتشويه مفهوم الحرية وتحويلها إلى «انفلات»، ويتَّبعوا من أجل ذلك منهجية للتدمير يطبقونها باقتدار، ومستعينون بالحرية التى يفتخرون بها فى نظامهم «الديمقراطى»، وهذا المصطلح من أصل يونانى مركب مِن مقطعين: الأول مشتق من الكلمة اليونانية Demos وتعنى عامة الناس، والثانى kratia وتعنى «حُكم»، وبهذا تَعنى لغة «حكم الشعب لنفسه»، ويتميَّز هذا النظام بأن جميع المواطنين يشاركون على قدم المساواة ــ إما مباشرة أو من خلال ممثلين عنهم منتخبين ــ فى تطوير وتعديل أو استحداث القوانين التى تشمل الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية... التى تمكن المواطنين من الممارسة الحرة والمتساوية لتقرير المصير.
هذه الديمقراطية لا تتعرض فقط فى العصر الحالى للهجوم كما صرحت روبرتا ميتسولا ــ رئيسة البرلمان الأوروبى ــ لكنها تتعرض – من وجهة نظرنا ــ للتدمير والانقلاب عليها من أصحابها، وأهم أدوات هذا الانقلاب «ازدواجية المعايير»، و«محاولة إلغاء الآخر»، وبذلك يقضون على أهم عناصر الديمقراطية المتمثلة فى الالتزام بالمسئولية واحترام النظام وترجيح العلم والسلم على القوة والعنف، وكذلك استبدال الغوغائية بالحرية المسئولة، والمشاهد على ذلك كثيرة!
وأهم مشاهد «ازدواجية المعايير»، نجدها تصدر من الولايات المتحدة الأمريكية ــ أكبر الدول الداعية للحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان ــ فمنذ إعلان استقلالها فى 1776، لم تدخر أى جهد للسعى وراء الهيمنة العالمية، وسخَّرت تفوقها المطلق فى القطاعات العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية... للتدخل فى الشئون الداخلية للدول الأخرى، فتنمرت خاصة على دول العالم الثالث، ونهبتها وسيطرت عليها تحت شعار «الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان»، ولعل أكبر دليل على هذا احتلالها ــ ومعها بريطانيا حليفتها ــ للعراق، وانتهاكها لقرارات الأمم المتحدة بدعمها المطلق لإسرائيل، وفى نفس الوقت تدين الاعتداء الروسى على أوكرانيا، أليست هذه ازدواجية كاشفة ليس لها مثيل!
ومن مظاهر مناقضة وتدمير الديمقراطية، يرفض رئيس الولايات المتحدة السابق دونالد ترامب نتائج الانتخابات 2020، فيدفع بأنصاره للهجوم على مبنى الكابيتول – مقر مجلسى الشيوخ والنواب ــ والاعتداء على أعضائهما لمنعهما من إقرار هزيمته، ظاهرة هى الأولى تشهد على تحول الحرية إلى فوضى؛ وفى ألمانيا، تقوم خلية تُدعى «مواطنى الرايخ» ــ ومن بينهم «قاضية» وبرلمانية سابقة ــ بمحاولة الانقلاب على نظام الحكم فيُذكِّر الألمان والعالم كله بواقعة الهجوم على حريق الرايخستاغ – مقر البرلمان ــ فى 1933 التى أُتهِم هتلر بتدبيرها!
• • •
وعن «إلغاء الآخر»، فالآخر ليس معناه المختلف فى الرأى فقط، ولكنه يشمل إلغاء التنوع فى كل شىء، فالإنسان خُلق من نوعين «الذكر» و«الأنثى»، هذه الثنائية بُنيت عليها كل مفاهيم الحياة فى الطبيعة والصناعة...، وهى صفة بشرية بامتياز، أما الوحدانية فهى صفة إلهية لله وحده، فأساس الحياة بكل تنوعاتها بنيت على التعدد أو «الثنائية»، وعلى سبيل المثال، الكهرباء لا تتولد إلا من «سالب» و«موجب»، فالماكينة لا تعمل إلا بالتحام «الدكر» بـ«النتاية» بلغة الحرفيين، فطرف واحد لا ينتج التيار الكهربائى، ولا تعمل الآلة الكهربائية، كما نلاحظ هذا المفهوم فى الصناعات الأخرى، ففى النجارة (صناعة قديمة قِدَم الإنسان) يستخدم عمالها تعبير «عاشق» و«معشوق» فى تركيبات المنتجات الخشبية...، هذا التنوع الثنائى بين الذكر والأنثى هو الذى تقوم عليه الحياة فى كل مناحيها، فإلغاء طرف منهما يفنى الحياة بأكملها، ويُلغى كل النشاطات البشرية!
وبالقياس على ما سبق، نرى أن «المثلية» التى يروج لها الغرب بكل الوسائل وبقوة هائلة تتعارض مع دعواتهم بقبول الآخر، فهى تعنى إذن رفض الرجل للمرأة، ورفض المرأة للرجل، فهذه «عنصرية جنسية» مرضية، كما أن العلاقة الجنسية الغريزية بين الرجل والمرأة يتم تشويهها، وتُصبح عبثًا لا فائدة منها سوى تخريب الطبيعة البشرية، ويترتب على هذا فناء البشرية كما يفنون الآن طبيعة الأرض ومناخها، فأصبح الصيف لاهبا، والشتاء قارصا، وتصحر فى أراض كانت خصبة، وسيول فى بلدان صحراوية؛ أليست «المثلية» و«الحب الواحد» ممارسات خاطئة تتعارض مع دعوات الديمقراطية من قبول الآخر، وتدخل أيضًا فى إطار «المعايير المزدوجة»، كما أنها بكل تأكيد تُبدد مفهوم الحرية لتجعلها «فوضى»!
من الواضح أن الغرب يسعى لممارسة «الأرستقراطية» وليس «الديمقراطية» على شعوب العالم غير الأوروبية، فهى نظرة عنصرية لأنهم يريدون فرض أفكارهم الشاذة بالقوة، وبكل التعالى على كل شعوب العالم دون احترام للتنوع الثقافى والحضارى لكل أمة، يعتبرون أنفسهم أسيادًا، والآخرون رعايا يجب عليهم أن تستجيبوا لأفكارهم ومبادئهم دون نقاش؛ فمصطلح «الديمقراطية» مناقض للـ«أرستقراطية» التى تعنى «حكم النخبة»، هكذا كان النظام السياسى فى أثينا القديمة، يمنح حق ممارسة الديمقراطية لفئة النخبة من الرجال الأحرار، واستبعد العبيد والنساء من المشاركة السياسية، حتى مُنح حق العتق الكامل من العبودية لجميع المواطنين البالغين فى معظم الديمقراطيات الحديثة من خلال حركات الاقتراع فى القرنين التاسع عشر والعشرين!
وتؤكد وزيرة الرياضة الفرنسية أميلى أوديا كاستيرا وجهة نظرنا بدعوتها لارتداء قائد منتخب فرنسا الشارة الخاصة بدعم المثليين، عند رفع كأس العالم حال الفوز به، غير عابئة بقوانين الفيفا التى تمنع رفع أى شعارات سياسية أو ثقافية مُخالفة لثقافة البلد المُضيف لكأس العالم– قطر ــ البلد العربى والشرقى المحافظ، إنها «عنجهية» الأرستقراطيين المتعالين الذين يعتبرون أنفسهم «النخبة» التى يجب على الآخرين اتباعهم دون نقاش، فما زال الفكر «الاستعمارى» يسيطر على الغرب، وليس لديه نية الفكاك منه، ويبدو أن مقولة: «الشرق شرق والغرب غرب لا يلتقيان» التى أطلقها الشاعر الإنجليزى روديارد كبلنج فى نهاية القرن التاسع عشر تحمل الكثير من معانى الحقيقة التى لا تقبل التغيير!
هكذا يهدم الغرب ديمقراطيته، باعتماده الفكر الواحد الخاص به، ويرفض كل ما سواه، كما يريد أن تكون كل شعوب العالم الأخرى رعايا لديهم، ألا يتناقض هذا مع مفهوم الديمقراطية من احترام للآخر ومن حرية مسئولة وحقوق للإنسان وتغليب للعلم والمعرفة والمنطق والسلم على القوة والعنف والتعالى على الآخرين، إنهم حقًا «أرستقراطيون» لا «ديمقراطيون»!

أستاذ متفرغ بكلية اللغات والترجمة (قسم اللغة الفرنسية) – جامعة الأزهر

 

أكرم السيسى أستاذ متفرغ بكلية اللغات والترجمة (قسم اللغة الفرنسية)– جامعة الأزهر
التعليقات