لم يعد غريبا أن تلاحظ وأنت تشاهد فيلما حديثا، اسم نتفليكس (Netflix) بلونه الأحمر الغامق متوسطا خلفية بيضاء أو سوداء، مع صوت مميز، لكنه مزعج ولا فن فيه، باعتبار أن الشركة المنتجة للفيلم تزاحم شركات إنتاج كبرى اعتادها الناس مثل (كولومبيا بيكتشرز، أو تونتيث سينشورى فوكس، أو وارنر براذرز، أو مترو جولدوين ماير...) ودخولها عالم الإنتاج الذى ولد، بالنسبة إلى مستقبل السينما، إشكالا كبيرا.
صحيح أن هذه المجريات كانت ستحدث لا محالة، لكن قرار منصة نتفليكس اقتحام غمار إنتاج الأفلام السينمائية والمنافسة بها على جوائز أرفع المهرجانات، وضعها فى طريق صناعة السينما، وأعاد قصة موت السينما إلى الواجهة.
سلاح نتفليكس القاتل
ارتبطت مشاهدة الأفلام بقاعة السينما، بحيث إن هذا الوسيط الوحيد رسخ لدى الجمهور عادات تلقٍّ، تبدأ بقرار، وتشمل تأنقا استثنائيا، وتنقلا لاقتناء تذكرة، وولوج هذا المكان الساحر، ناهيك بمتعة الضوء المسلط، والمؤثرات الصوتية التى تجعلك تعيش كل تفاصيل الفيلم، ومشاطرة المتعة مع مئات الناس: الضحك، البهجة، السرور، السفر فى عوالم الفيلم... إلخ. لكن، بعد مجىء التلفزيون ظهرت بوادر حرب بين الوسيطين؛ فالتلفزيون حمل معه عاداته أيضا، إذ إنه لم يعد مفروضا عليك أن تتنقل وتتأنق، بل يمكنك أن تجلس مسترخيا فى بيتك على أريكتك ومشاهدة الفيلم الذى تختاره بنفسك. ومع الفضائيات بات بإمكانك أن تغير القناة كما تحب. ومع التقدم التكنولوجى المهول، صارت الشاشات تقدم اليوم جودة 8K وصوتيات تحاكى قاعة السينما وتتفوق على القاعات التى لم تجدد نفسها. والأكثر من هذا أنها باتت توفر لك عبر منصات الأفلام مثل نتفليكس Netflix، وأمازون فيديو برايم Amazon Video Prime، وإتش بى أو ناو HBO NOW، وآبل تيفى Apple TV... آلاف المسلسلات والأفلام والبرامج الحصرية التى تصنع الحدث، بالإضافة إلى أهم أفلام السينما فى أى وقت وبأية لغة.
الهواتف الذكية وسائط مشاهدة أيضا
فى كتابه «وسائل الإعلام والمجتمع»، يقول الصحفى الأمريكى آرثر أسا بيرجر Arthur Asa Berger: «بعد ظهر يوم من أيام الربيع فى العام 2000، بدأت ألاحظ الناس فى شوارع طوكيو يحدقون فى هواتفهم بدلا من التحدث بها... عرفت أن الرسائل النصية ليست سوى نذير صغير لتغيرات أكثر عمقا ستأتى على السنوات العشر المقبلة». لقد صارت الرسائل النصية تقليدية الآن، بعد طفرة الهواتف الذكية وما تتيحه من إمكانات هائلة للتواصل: كتابة، صورة، فيديو، مكالمات مصورة، ألعاب... إلخ. الهواتف سرقت وظائف كثيرة من غيرها، فهى توفر مكتبة، آلة تصوير، ألعاب فيديو، كاميرا، خرائط... إلخ. الإنسان المعاصر بات قادرا على أن يعمل وأن يجنى أموالا بالاعتماد على هاتفه الذكى فقط. فالهاتف صار اليوم جزءا من حياته وامتدادا لجسمه.
نتفليكس وديمقراطية المشاهدة
متعة المشاهدة، كانت، منذ بداية السينما، مرتبطة بتحديد محتوى المشاهدة. فالمتفرج لم يكن بإمكانه، إلى حدود ظهور القاعات متعددة الشاشات، أن يختار فيلمه. ففى زمن القاعة الواحدة أنت مجبر على مشاهدة ما يقترحه صاحب القاعة، وفى أحيان كثيرة، تعلم ما ستشاهده من أمام القاعة نفسها. ففى دراسة قام بها عالم الاجتماع الفرنسى إيمانويل إثيس Emmanuel Ethis عن قاعات سينما مدينة أفينيون الفرنسية، حيث اشتغل على مختلف شرائح المتفرجين، لاحظ الباحث أن نسبة 35 فى المائة من الجمهور لا تقرر ماذا ستشاهد، إلا عندما تتواجه مع ملصق الفيلم على واجهة القاعة، وأن أغلب الجمهور يأتى من أمكنة بعيدة، حيث يقطع بعضهم مسافة 80 كيلومترا للوصول إلى القاعة. إذا تأملنا هذه الحقائق سنجد أن تاريخ الصراع هو صراع وسائط، كل وسيط تكون له ميزة فى غياب وسائط منافسة، وتتراجع قيمته فى ظل وجود وسائط أخرى. هل هذا يعنى أن ظهور منصات عرض الأفلام، ومن بينها نتفليكس، ستنهى عصر السينما التقليدية؟
فى هذا السياق يعتبر المؤرخ الإعلامى البريطانى آسا بريجز أن «ظهور وسائط جديدة لا يعنى التخلى الكامل عن الوسائط الأقدم منها، بل على العكس؛ إذ إن من شأن الوسائط القديمة أن تتعايش وتتفاعل مع القادمين الجدد. فالمخطوطات مثلا، لم تفقد دورها فى عصر الطباعة، فيما بقيت الكتب والإذاعة حية فى عصر التلفزيون، لذا من الضرورى النظر إلى الوسائط كنظام فى تغير دائم، تلعب فيه عناصر مختلفة أدوارا متفاوتة التأثير». لكن على الرغم من هذا الرأي، يمكن القول إن منصات البث الحى، ونتفليكس فى مقدمتها، تهدد فعليا وجود السينما، من حيث كونها صناعة واختصاصات وإبداعا، وتشترى حقوق الكتابة والتأليف والنصوص والعرض الحصرى، بما يهدد وجود القاعات السينمائية. لكن منصات البث الحى تنعش، من جهة أخرى، إنتاج الأفلام. يكفى أن نذكر أنها كانت وراء إنتاج أفلام لأسماء مهمة فى عالم السينما، مثل فيلم «روما Roma» رائعة ألفونسو كوارون.
• • •
نتفليكس جعلت حياة الجماهير أكثر ديمقراطية، وهو أمر لا يمكن أن ينكره أحد. فملايين الناس فى العالم لم يسبق لهم أن شاهدوا فيلما فى قاعة سينما. كما أن عددا من المدن فى بلدان العالم الثالث لا تتوافر فيها قاعات سينما، وحتى إن توفرت، ليس بمقدور كثيرين تحمل تكاليفها. من هنا، يأتى تصور نتفليكس، المعلن على الأقل، والذى عبرت عنه تدوينة للشركة على تويتر ردا على هجمة المخرج الأمريكى ستيفن سبيلبيرج عليها، حيث ورد فى تدوينة الشركة تلك: «نحن نحب السينما. إليك بعض الأشياء التى نحبها أيضا: الوصول إلى الأشخاص الذين لا يستطيعون دائما الذهاب إلى السينما أو الذين يعيشون فى مدن خالية من المسارح؛ السماح للجميع فى كل مكان الاستمتاع بالإصدارات فى الوقت نفسه؛ توفير المزيد من الطرق أمام صناع السينما لمشاركة الفن».
إن مسألة القرار أصبحت فى يد الجمهور بشكل كلى، وهو أمر يبدو ديمقراطيا، لكن علينا هنا أن نفحص كلمة «ديموقراطية» كثيرا. فمع إمكانات الاختيار والتغيير من مشاهدة واختيار الأفلام والتصويت وإبداء الآراء حولها، تتخفى قدرة مرعبة لهذه التكنولوجيا على التأثير والتوجيه وتعزيز مبدأ العزلة، وهنا يقول التربوى البريطانى بول ويليس Paul Willis: «الراهن يحتم علينا فهم مكنون طبيعة الديمقراطية التى تعمل على اغتراب ثقافتنا، القائمة فعليا، وتحويلها إلى ثقافة تسليعية وإلكترونية، أو إلى ثقافة جماهرية كما نراها الآن، أو كما هى آخذة فى التحول إليه". نتفليكس اليوم جعلت مفهوم السينما مقترنا بما تنتجه وتقدمه هي، والكثير منه كما نعلم هو نمطى وتجارى وبعيد عن جوهر السينما كفن أو رسالة فنية».
الحديث عن ظاهرة نتفليكس ومنصات المشاهدة وتأثيرها على مستقبل السينما، يتجاوز قطعا كل حديث سابق عن مستقبل السينما أو قدرتها على منافسة وسائط أو فنون معاصرة لها، كونه يتضمن حزمة إشكالات منها القديم والجديد وحتى المستقبلى كالتوزيع، والعرض، والاحتكار؛ وهو حديث يختلف بين بلد وآخر، بين من لديهم تقاليد راسخة فى تلقى السينما والمحرومين منها. فالعصر هو عصر التكنولوجيا، وعصر الهواتف الذكية، هذه حقائق لا يمكن أن نتغاضى عنها. لكن السينما، وكما عودتنا، لطالما تجاوزت موتها، فهى تطوع كل وسيط لمصلحتها. لكن الأكيد أيضا، هو أن جمهور اليوم ليس هو جمهور الأمس، وأن التلقى فى مسألة السينما فى الماضى لن يكون كما هو فى الحاضر أو كما سيكون عليه فى المستقبل.
سليمان الحقيوى
مؤسسة الفكر العربى
النص الأصلي
https://bitly.cx/s9yB
4