بين العراقة والحداثة - إكرام لمعي - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 12:31 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

بين العراقة والحداثة

نشر فى : الجمعة 4 فبراير 2022 - 9:20 م | آخر تحديث : الجمعة 4 فبراير 2022 - 9:20 م

 

من الثابت تاريخيًا أن محمد على والى مصر الحديثة هو مؤسس مدرسة الطب عام ٨٣٥م وذلك بناء على اقتراح من صديقه الفرنسى د/ كلوت بك، وهكذا كلفه بإنشائها فى منطقة أبى زعبل، وعينه مديرًا لها، لكن المشكلة كانت أن التلاميذ الذين التحقوا بمدرسة الطب لا يعَرفون اللغة الفرنسية أو الإنجليزية، فكان لابد من إيجاد مترجم، وهكذا وقع الاختيار على الشيخ الأزهرى الهراوى الذى يُتقن أكثر من لغة. وفى محاضرة لعلم التشريح أحضر كلوت بك جثة إنسان مات حديثًا ليشرح للطلبة ما يحتوى عليه جسد الإنسان ــ وهو ما اتفقت عليه جميع كليات الطب فى العالم، إلا أنه عندما دخل الشيخ الهوارى لحصة التشريح ورأى جثة الرجل هاج وماج، وأخذ يتحاور بعنف مع كلوت بك، وبالطبع انتصر الطلبة للشيخ الهوارى، وهنا اشتكى كلوت بك لمحمد على، فأصدر محمد على وثيقة أرسلها إلى مدرسة الطب نصها كالتالى: «أنه عُلم لنا حصول معارضة من الشيخ الهوارى فى بعض أمور لا تعنيه، وبالنسبة لعلمه وآدابه لم يعترض عليه أحد من الأطباء، وأن المذكور ليس متخصصًا فى علوم الطب، ونحن أرسلناه فى مهمة بعينها وهى الترجمة وهو قام بعمل ليس من تخصصه ولا يعنيه... إلخ، وهو بهذا يقوم بتزوير لعلوم معلومة من قَبل، فيلزم استحضار المذكور والتنبيه عليه مؤكدًا عدم تدخله فى شىء خارج عن وظيفته وبأنه يُطرد فيما لو حصل إقدام ثانٍ على ما يوجب التشكى منه».
ثم عاد محمد على وأصدر أمرًا أشد لهجة لأنه لاحظ أن المسئولين بالديوان خضعوا لابتزاز الشيخ الهوارى لهم باسم الدين وجاء فيه «أنه اطلع على المضبطة الصادرة بشأن التقرير المقدم من الشيخ الهوارى فى حق «كلوت بك» بخصوص تلاميذه فكتب إلى المارستان (كلية الطب) وعلم الكيفية، وأن تقرير المذكور (الشيخ الهوارى) ليس صحيحًا، وبناء عليه يُشير بدعوة المذكور إلى ديوان خديوى والتنبيه عليه بعدم تدخله فيما هو خارج عن وظيفته المخول إليه، وهى الترجمة والتصحيح... إلخ، واستحضار كلوت بك أيضًا والتنبيه عليه بالمداومة على السعى والاجتهاد فى تعليم أولئك التلاميذ على علم الطب «كمرغوبة». لكن ظلت الأزمة مشتعلة حتى قرر كلوت بك دعوة عدد من رجال الدين وشرح الأمر لهم بطريقة علمية، وأن التشريح هو أفضل طريقة لدراسة الطب واكتشاف طرق جديدة لتشخيص الأمراض، وبالفعل نجح فى ذلك وصدرت فتوى تفيد بالسماح لطلاب مدرسة الطب بتشريح الجثث.
• • •
تذكرت هذه القصة وأنا أتابع الحوار الذى دار مؤخرًا فى مؤتمر جامعة الأزهر والذى تحدث فيه الدكتور محمد عثمان الخشت رئيس جامعة القاهرة وأستاذ فلسفة الأديان والمذاهب الحديثة المعاصرة، وأثار بعض القضايا التى بها تماس بين العلم والإيمان، وهنا طلب فضيلة الإمام أحمد الطيب شيخ الأزهر التعقيب حيث تناول خطاب العميد بتفهم وإدراك وعمق منتقدًا بعض النقاط، وبعد أن انتهى طلب رئيس جامعة القاهرة التعقيب على كلمة شيخ الأزهر، إلا أن رئيس الجلسة ومدير الحوار وزير الخارجية الأسبق عمرو موسى رأى أن ينهى الندوة برد فضيلة الشيخ الطيب، إلا أن الشيخ الطيب أصر على أن يقوم د/ الخشت بالتعقيب على ما أثاره، وقد أضاف هذا الطلب من شيخ الأزهر جوًا رائعًا وراقيًا للندوة؛ حيث قام رئيس الجامعة بالتعقيب وجاء تصفيق الحضور فى النهاية يعبر عن الاحترام الكامل للعالمين، وقد ازداد احترامنا لشيخ الأزهر لأنه كان فى مقدوره أن يوقف الحوار بعد كلمته كخاتمة، لكن فضيلة الشيخ الطيب أعطى الحضور ومن يتابعون على الهواء درسًا فى علم وفن الحوار الإنسانى الراقى.
من هنا قام ذهنى تلقائيًا بمقارنة بين حوار العلماء وحوار الدهماء الذى يدور حاليًا حول فيلم «أصحاب ولا أعز»، وكيف كان مستوى الحوار متدنيًا من كثيرين، وأهم ما أريد أن أركز عليه هنا أن الذين هاجموا الفيلم كان هجومهم على الذين قاموا بالتمثيل وخاصة منى زكى، وكأن منى زكى وهى تقدم دورًا فى الفيلم تُعبر عن أخلاقها وتربيتها وأسرتها، وبالتالى جميع الممثلين فى كل دور يقومون به!! وهذا إنما يدل على الفقر الشديد فى إدراك وتقييم فيلم يقوم الممثلون بتمثيله ليس أكثر، بل ويشير إلى انحدار المستوى الثقافى والفكرى عند البعض من الشعب المصرى الذى لا يُفرق بين الدور التمثيلى والواقع، وهو أمر مضحك، وقد تعودنا من النقاد المحترمين أن ينتقدوا الأسماء فى الفيلم وليس الأسماء الحقيقية للممثلين، وهو ما يحدث فى كل العالم المتقدم. لقد قدم خالد الصاوى دور المثلى ببراعة شديدة وبالتصوير البطىء فى فيلم عمارة يعقوبيان وكان الإعجاب به منقطع النظير وهذا هو النضوج الفكرى والاجتماعى.
• • •
وهنا علينا أمام مثل هذه الثقافة أن نتساءل ما الدور الذى يجب أن تقوم به الدولة مع الأحزاب والمؤسسات العلمية والتعليمية والفنون والآداب... إلخ، هل الذى يحدد لنا قراراتنا السياسية والاقتصادية والعلمية والفنية الشارع المصرى؟! أم أن لكل علم نظرياته وتاريخه ومتخصصيه وأساتذته، بل ونقاده؟!
إحدى النظريات الفلسفية التى تجيب على هذا التساؤل نظرية النفعية (المصلحة)، وإذا اتفقنا على المصلحة، تُرى على أى أساس نحدد أو نختار نوعية «المصلحة الجماعية»؟ وإذا كانت المنفعة ضد بعض التقاليد للشعوب تُرى ماذا نفعل؟ وإذا اخترنا أن نعتمد على «القيم» مثل قيمة الحب، العدل.. إلخ، فهل العدالة أو الحب مفهومهما ثابت أم متغير بتغير الزمان والمكان والإنسان؟، ونحن نَعلم ونُعلِّم أن الحياة متجددة باستمرار، وهكذا لا يكون التمسك بالقيمة الأخلاقية فى حد ذاتها لكن فى مدى صلاحيتها هنا والآن وعلى كل المستويات، فما ينجح فى الماضى يمكن ألا ينجح فى الحاضر أو المستقبل والعكس صحيح. هنا ليس علينا الحديث عن مصطلحات نكررها بلا وعى، فالمنتج نحن نشتريه ونشاهده بثقافته مهما كان مصدره لكننا نتعامل معه بثقافتنا وحضارتنا قبولًا ورفضًا وتعديلًا.
يعيش الإنسان اليابانى يومه خارج البيت كأمريكى (نفس المستوى الفكرى ونفس الحداثة) لكن داخل البيت يعود كيابانى لا غش فيه، حتى إذا رأيته فى الحالتين تتعجب بشدة وتندهش. نحن كمصريين عرب ننفصل عن التراث لنعود إليه بعد الحداثة فنكتشف أن بعض التراث أغنى مما هو عليه اليوم والعكس صحيح، والقضية كيف ننقى التراث فى ضوء المعاصرة علمًا وأدبًا وفنًا وثقافة.. إلخ، فإذا حاولنا فهم علاقتنا بأنفسنا وحضارتنا من ناحية والعصر من الناحية الأخرى نستطيع القول مثلًا إن العلاقات الخارجية الحالية (الحداثة ــ العصرنة ــ التجديد.. إلخ) يمكن أن نطلق عليها مجازًا «النهار» الذى نعيشه. ذلك لأننا فى النهار نعبر عن أنفسنا للآخرين الذين نتعامل معهم، نعقد الاتفاقات ونرتبط بمحادثات نؤثر ونتأثر.. إلخ، أما عندما يأتى (الليل) الذى نعيشه يعود الإنسان إلى نفسه، يستمع إلى ذاته وارتباطه بتراثه فى الليل: وتراثنا نراه فى رسالة الغفران وألف ليلة وليلة، والموسيقى العربية والفرعونية، وأم كلثوم.. إلخ، ولا يوجد تناقض بين الاثنين.
الحداثة مستوى عالمى يجب أن نعيشه لكن لا يعنى ذلك أن ننفصل عن ماضينا.
والسؤال: هل الذاكرة التاريخية تعترض طريق الحداثة؟! والجواب التراث القديم يُقبل ويئول تأويلًا جديدًا، فالتأويل على أساس المصلحة حسب الفقه المالكى يجمع بين ابن خلدون وابن رشد وعندما نعود لتاريخ المسيحية يقول مونتسكيو:
«أن ما كان سبب تأخر المسيحية البيزنطية الشرقية بالمقارنة بالإمبراطورية الرومانية الغربية هو أنها خلطت بين الدين والسياسة، بعكس ما وقع فى أوروبا الغربية»، فهل نتعلم؟!

إكرام لمعي  أستاذ مقارنة الأديان
التعليقات