فى السنوات الأخيرة، أصبحت النماذج اللغوية الكبيرة (Large Language Models - LLMs) من أبرز مظاهر التقدّم فى مجال الذكاء الاصطناعى، واحتلت موقع الصدارة فى الثورة التكنولوجية المتسارعة. فبعد أن كانت مجرد أدوات للمساعدة فى الكتابة أو الترجمة، أصبحت اليوم أنظمة معرفية شاملة قادرة على توليد الأفكار، وتحليل البيانات، وخلق تفاعل لغوى طبيعى مع المستخدم، فتبوأت الصدارة فى اهتمام الباحثين والمطوّرين وصنّاع القرار. ومع إتاحتها على الهواتف المحمولة، تحولت إلى أدوات يومية يستخدمها مئات الملايين حول العالم، لتصبح من أكثر التطبيقات شيوعًا وانتشارًا.
من بين هذه النماذج، يبرز تطبيق ChatGPT من شركة OpenAI الأمريكية، وGemini من Google، وDeepSeek من شركة صينية تحمل الاسم نفسه. ولم تعد مهمة هذه النماذج تقتصر على توليد النصوص أو الرد على الأسئلة، بل تطورت لتصبح أدوات متقدمة قادرة على كتابة الأكواد البرمجية، وتقديم تحليلات معقدة، وتفسير البيانات، وإجراء حوارات طبيعية مع المستخدمين بجودة تفوق التوقعات.
تعتمد النماذج اللغوية الكبيرة على أنظمة ذكاء اصطناعى تم تدريبها على كميات ضخمة من البيانات النصية المستخلصة من مصادر متنوعة، مثل الإنترنت، والكتب، والمقالات، والموسوعات العلمية. ومن خلال استخدام تقنيات متقدمة فى البرمجة، أصبحت هذه النماذج قادرة على فهم اللغة البشرية وتحليلها، وتوليد نصوص جديدة مترابطة ومنطقية تحتوى على معلومات دقيقة إلى حد بعيد وإجابات وافية.
• • •
أما النقطة المفصلية فى تطوّر هذه النماذج فيرجع تاريخها إلى عام 2017، حينما نشرت مجموعة بحثية بقيادة العالم الهندى الأصل أشيش فاسوانى (Ashish Vaswani)، من شركة Google Brain، ورقة علمية غيّرت مسار أبحاث الذكاء الاصطناعى فى هذا المجال، حيث ابتكرت تقنية الـ «Transformer» وقدمتها فى الورقة البحثية الشهيرة بعنوان: «Attention is All You Need»، خلال المؤتمر الدولى الحادى والثلاثين لأنظمة معالجة المعلومات العصبية الذى عقد فى ديسمبر 2017 بمدينة لونج بيتش، بولاية كاليفورنيا الأمريكية. وشكّلت هذه الورقة انطلاقة حقيقية لعصر جديد من النماذج اللغوية، حيث وضعت الأساس الرياضى والتقنى الذى بُنيت عليه معظم النماذج المتقدمة اليوم، مثل «تشات جى. بى. تى» وغيرها، ويكمن تميّز تقنية الـ Transformer فى قدرتها على معالجة النصوص بكفاءة عالية عبر آلية «الانتباه الذاتى» (Self-Attention)، ما مكّن هذه النماذج من فهم العلاقات بين الكلمات والسياق بشكل أعمق من أى وقت مضى. وبينما تتسارع وتيرة تطوير هذه النماذج يبدو أننا لا نزال فى بداية رحلة طويلة من الابتكار والاكتشافات فى هذا المجال. ومع ذلك، فإن إمكاناتها الحالية بالقياس لعمرها الزمنى تعد غير مسبوقة، فلقد تجاوزت مرحلة التجربة الأكاديمية لتصبح أدوات إنتاجية يومية فى مختلف المجالات مثل التعليم والبحث العلمى، والطب، والاقتصاد، والإعلام، والترجمة، وغيرها، لكن رغم هذه الإنجازات، ما تزال هناك حدود لإمكانات هذه النماذج، خاصة فى ما يتعلق بالفهم العميق والسياقات المعقدة والدقة فى المعلومات. ولكن مع تزايد الاهتمام العالمى لهذه التطبيقات، واشتداد التنافس بين الشركات وبالتحديد بين شركتىّ جوجل وأوبن إيه الأمريكتين وبينهما وبين شركة «ديب سيك» الصينية، سوف يتسارع تطورها. أضف إلى ذلك أن مليارات الدولارات التى يتم ضخها للحصول على السبق تفيدنا بأن العالم ذاهب إلى دعم هذه التقنيات إلى أبعد الحدود، فى الوقت الذى أهمل فيه الجميع الجانب الأهم ولا أقول الأخطر وهو الاهتمام بمبادئ السلامة التى كان لابد من أن تكون ملازمة لأى تطوير يحدث، وأن يكون لها نسبة «كافية» من التمويل لحماية الجنس البشرى من خطورة إندفاع تطوير هذه التقنية إلى حد تمكُّنها من إنتاج «الذكاء الخارق للآلة» أو «Super Intelligence» بدون القدرة على التحكم فيه والسيطرة عليه.
• • •
أما عن المستقبل فستصبح هذه النماذج أكثر فهمًا للسياقات الدقيقة والمعقدة، وستتمكن من التحليل المنطقى والاستدلال المتقدم، وسيتم تطويرها بحيث تتجاوز مجرد «توليد النصوص» إلى حل المشكلات، والتفكير النقدى، والتخطيط، سيكون المستقبل للنماذج التى تفهم وتُنتج نصوصًا وصورًا وصوتًا وفيديوهات -وظهرت بشائر ذلك فى نموذج GPT-4o من شركة أوبن إيه أى- الذى يجمع بين اللغة والصوت والصورة، والذى سوف يُمهد الطريق لإنتاج الوكيل الذكى (Intelligent Agent) المتكامل القادر ــ مع الوقت والاستخدام ــ على تعلُّم تفضيلات كل مستخدم ومحاكاة شخصيته، بحيث يصبح مساعده الخاص «ووكيله الذكى». ولن تكون هناك مشكلة فى سرعة التعلم فالتكامل مع الحوسبة الكمومية والاستعانة بالأنظمة المتقدمة سيتكفل بتدريب هذه النماذج فى أزمنة لن تتعدى الدقائق ولا أقول الثوانى.
هنا أسترجع المشهد الأخير للفيلم الرائع «لعبة التقليد Imitation Game» عندما زارت جوان التى قامت بدورها الممثلة «كيرا نايتلى» عالم الرياضيات الإنجليزى آلان تورينج الذى جسّد شخصيته «الممثل القدير بنيدكت كامبرباتش» وكان خطيبها السابق لتسأل عن أحواله وحالته الصحية معربة عن قلقها حياله، وإشفاقها عليه من وحدته فى مرضه، فأجابها: «لست وحيدا فمعى «كريستوفر» وهو يزداد ذكاءً كل يوم» ناظرًا إلى ومتحدثا عن حاسبه الرقمى الذى اخترعه أثناء الحرب العالمية الثانية وكان السبب الرئيسى فى فك الشفرة الألمانية «إنيجما» وبالتالى انتصار الحلفاء فى الحرب.
أقول جاء فى ذهنى هذا المشهد وأنا أتابع تسارع انتشار استخدام هذه النماذج من الجميع، فالطلبة فى المدارس والجامعات، والأساتذة والباحثون، والأطباء والمهندسون، وحتى ربات البيوت لا يمر يوم إلا واستخدمو هذه النماذج وكلما تحسنت ردود أفعالها وأصبحت إجاباتها تلبى طلباتهم ازداد التعامل معها وازدادت مدخلات هذه النماذج من بيانات ومعلومات. فإذا كان التواصل الآن يتم باستخدام كتابة النصوص الخطية فلن يمر وقت طويل (وأتحدث عن أشهر أو سنة على الأكثر) حتى يتم التواصل عن طريق التحدث بين الإنسان والتطبيق سواء بالصوت فقط أو بالصوت والصورة، ويصبح مفهوم «الوكيل الذكى» أو Intelligent Agent هو السائد فى هذه النماذج. وليس من المستبعد وقتها أن نصل لمرحلة أن يفهم الوكيل الذكى أفكار المستخدم بدون حتى أن يكتبها أو ينطق بها، وفى هذه الحالة سوف يصبح هذا النموذج ليس فقط الوكيل الذكى بل سيكون وقتها الرفيق الأعظم فى الحياة.
• • •
ومع كثافة استخدام هذه النماذج، وحصولها على بيانات ومعلومات جديدة تضاف لمخزون خبراتها، سوف يؤدى ذلك إلى تسارع معدل تعلم الآلة، ولئن كانت حاليًا فى مرحلة التعلم وبالتالى ما زالت تعتمد على العنصر البشرى لتحسين مستوى «ذكائها الاصطناعى» إلا أن استمرار تعليمها وتصحيح أخطائها وتحسين مخرجاتها سوف يمكّنها ــ فى مرحلة معينة ــ من الاعتماد على نفسها والتعلم بمفردها، بحيث تصبح فى غير حاجة للعنصر البشرى الذى علمها فى الأساس. وفى هذه الحالة سوف تكون قادرة على التفكير المنطقى «Reasoning» واتخاذ القرارات بذاتها وهى الخاصية التى تميز الجنس البشرى عن الآلة. وأستعير هنا ما أكده الأب الروحى للذكاء الاصطناعى، والفائز بجائزة نوبل العام الماضى البروفيسير جيفرى هينتون عن تعلم الآلة قائلاً: «فى الوقت الحالى، هم ليسوا أكثر ذكاء منا، لكننى أعتقد أنهم قد يكونون كذلك قريبًا». وأضاف قائلا: «نحن أنظمة بيولوجية وهذه أنظمة رقمية. والفرق الكبير لصالح الأخيرة.. لذلك علينا أن نقلق بشأن ذلك». معبرًا عن خيبة أمله فى نسب توزيع الاستثمارات فى هذا المجال حيث يذهب 95% منها لتطويره ولا يتبقى سوى 5% منها لمعالجة آثاره السلبية. ثم جاء فى مقابلة تليفزيونية مع محطة «بى. بى. سى» فى مايو 2024، وكرر مخاوفه من الخطر الوجودى للذكاء الاصطناعى مؤكدًا اقتناعه التام بأنه سوف يتخطى الذكاء البشرى وأن السؤال الوحيد المطروح هو: متى سوف يحدث ذلك؟
• • •
إن ما نشهده اليوم من تطوّر مذهل فى النماذج اللغوية الكبيرة وتسارع استخدامها، لا يمثل إلا بداية رحلة طويلة نحو مستقبل لا تزال ملامحه غير واضحة بالكامل. وبينما تبهرنا هذه النماذج بقدرتها على محاكاة الفهم البشرى، وتحليل السياقات، وتقديم الحلول لمشكلات معقدة، فإننا نقترب شيئًا فشيئًا من مرحلة يصبح فيها الذكاء الاصطناعى شريكًا حقيقيًا فى صنع القرار، بل وربما كائنًا رقميًا يتمتع بوعى كافٍ لاتخاذ قراراته المستقلة. لكن السؤال الذى يجب أن يُطرح بإلحاح هو: هل نحن مستعدون حقًا لمواجهة ما يمكن أن تفعله هذه الآلات؟ فالتقدّم التقنى إن لم يُقيده وازع أخلاقى ورقابة علمية صارمة، قد يتحول من أداة لتحسين الحياة إلى خطر يهددها. إن الطريق إلى «الذكاء الخارق» قد يكون أقصر مما نعتقد، والرفيق الذكى الذى ندرّبه اليوم، قد يصبح فى الغد كيانًا له إرادة، وقدرة، وقرارات تخصه وليست بالضرورة فى صالحنا. وهنا، يصبح لزامًا على المجتمع العلمي، وصنّاع السياسات، بل والإنسانية جمعاء، أن يقفوا وقفة مراجعة: لا لوقف التطوير، لكن لابد من ضمان أن يكون هذا التطوير فى خدمة الإنسان، لا فى منافسته أو تجاوزه، بل تطويره الآمن.
ربما لا نملك رفاهية التراجع، لكن ما زلنا نملك القدرة على التحكم فى زمام مستقبل هذه التقنية... فلنحرص على ألا يأتي يوم تمسك هي فيه بزمام مستقبلنا.