اثْبت ذكاءَك - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 7:45 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

اثْبت ذكاءَك

نشر فى : الجمعة 4 سبتمبر 2020 - 11:00 م | آخر تحديث : الجمعة 4 سبتمبر 2020 - 11:00 م

توجهت السيدة في لهفةٍ ظاهرة إلى منفَذ بَيع التذاكر، وطلبت تذكرةً واحدةً، ثم انطلقت في حماسة لتنفيذ مُهمتها. لا طلبت كشفًا ولا سعت لمقابلة طبيبةٍ أو طبيب، بل سألت سؤالاً واحداً: "هي فين اختبارات الذكاء من فضلك؟" لم يكُن الأمر بسيطاً كما تصورَت، فالطَلب على الاختبار الذي تريد رائج، ومثلها أمهات وآباء كُثر؛ ابتاعوا التذكرةَ، وسلكوا الطريق المشمسة في القيظ حتى تفصدت من وجوههم حباتُ العَرَق وابتلت ملابسُهم، ووقفوا يسألون السؤال ذاته.
***
السيدةُ مُضطرةٌ لترك عملها واصطحاب طفلِها كي يُتما سويًا المهمة؛ فمدارس عديدة باتت تُصِرّ على مَعرفة مُعدل ذكاء طُلابها الجُدد. ترغم صغار التلاميذ المتقدمين للالتحاق بها على أداء الاختبار كخطوة روتينية لا مفرَّ من اتخاذها. جزءٌ من الأوراق اللازمة لقبول الطلب، ودونه لا يمكن بحث مَوقف التلميذ، وقبوله أو رفضه.
***
اختبار الذكاءُ الذي ذاع صيته وانتشر مؤخرًا وكأنه ابتكار جديد؛ باهظ التكلفة، ليس في إمكان الأسر متوسطة الحال والمتواضعة أن تتحمَّله؛ مُضافًا إلى المَصروفات الدراسية المُتوقعة، والمؤسسات الحكومية المتخصصة التي تُقدم الخدمة قليلة، والضغط عليها متزايد نظرًا لتفشي الفكرة بين المسئولين عن المدارس على اختلاف مستوياتها، أما قائمة الانتظار فطويلة مُخيفة، ومواعيد التقدُم بالمستندات الكاملة لأغلب المدارس صارمة؛ فقد يُسفر التخلفُ عنها عن ضياع سنةٍ من عمر التلميذ.
***
الأصل في الإنسان أنه كائنٌ يَعقل، وأنه قادرٌ على التفكير، وأن نسبةُ ذكائِه العادية تكفُل له اكتساب المهارات المُتنوعة، والتعلم من تجاربه، ومن ملاحظة ما يجري حوله. الاستثناء أن يكون لديه عائق وراثي أو مُكتَسب؛ يُعجزه عن استيعاب بيئتِه، وعن التعامُل مع كم المعلومات التي تتدفق من حواسه إلى رأسه. عائقٌ يجعله يكفُّ عن استقبال المؤثرات وتحليلها والربط بينها، وتكوين علاقاتٍ تجعل للكون من حَوْله معنى.
***
في بعض المُجتمعات عشوائيةِ التخطيط التي لا تتمتع بأنظمةِ حياةٍ مُستقرّة ورؤى واضحة؛ تصبح الصيحات الحديثة التي تطرأ على السطحِ بمنزلةِ الضرورات، تحتلُ مَكانة لا تستحقها، وتتحول إلى فرضٍ لا ينبغي تركُه، يتمَحور حولها الناسُ كأنها معجزةٌ مُقدسة؛ فيما هي فقاعة. مِن سوء الطابع وبُؤس الحاضر أن صارَ على الأطفال هذه الأيام أن يثبتوا كم هُم أذكياءً لامعين، وكم هُم على استعداد لرفع اسمِ المدرسةِ ورايتها وتشريفها، وكم هم كفؤاً لها، مُستحقّين لحَملِ شهاداتها مٌستقبلا كخرّيجين. صار على أولياء الأمور بدورهم أن يطرقوا أبوابَ المراكزِ والعياداتِ العامةِ والخاصةِ والمُستشفيات، سعيًا لنفي الوَصمةِ عن أبنائِهم؛ ليس الولدُ غبيًا، ليست البنتُ بلهاءً، ونتيجة الاختبار هي الفيصلُ والحَكَمُ.
***
أتذكر في بَعض المجلات والدوريات القديمة التي اعتدتُ اقتناءَها أيامَ الطفولة؛ أبوابًا متشابهة يحملُ أغلبُها عنوان: "اختبر ذكاءَك". ألعابٌ مسلية وطريفة؛ مَثلت المُحتوى الأكثرَ جذبا وَسطَ القصص والصور المُلوّنة والحكايات. وغَدَت مع الوقت سببًا للبحث عن المجلةِ أسبوعيًا، وأول ما تتجه إليها العينُ فيها.
***
لا أظن طفلا سيُمسِك اليومَ بمجلةٍ لينسَجمُ مع ألعابِ الأرقام وأحاجيها؛ جمعاً وطرحاً وقسمةً، أو ليسيرَ بين المتاهاتِ في صَبرٍ مُتقصيًا الخطوطَ المُتشابكةَ، أو ليُدققَ النظرَ مُعَددًا الفروقَ بين رسمتين تبدو أحدُهُما مرآةً للأخرى. لا أظنه يقضي بعضَ الوقت مفكرًا في كلماتٍ مُتقاطعةٍ مُصغَرة؛ لكنه قطعًا سيُمسك بجهازٍ الكترونيّ ويضغط أزرارَه بمهارَةٍ، أو يَمسّ شاشتَه تتابُعًا في سُرعةٍ فائقة، ليُحقّقَ أفضل نتيجةٍ في اللعبة التي يُمارسها.
***
تطوّر الكَيفُ وتغيّرت الأحوالُ، وتعددت مع التوغل في العلم أنماط الذكاء، ولم يعُد الأمرُ قاصرًا على نمطٍ واحدٍ جامدٍ، والحقُ أن اختبارا يُؤدى وَسَط ضُغوطٍ متعددة، مَحفوفاً بالضيق والزهق والتوتر لأسبابٍ غير خافية، لا يُمكن أن يَحظى بالدقةِ التامةِ والثقة كي يُصبح قولاً فصلاً في تحديد مصائر الصغار؛ اللهم إلا عند مُلاحظة ما يستدعي خُضوع أحدهم له. هو إجراءٌ استثنائيٌ وليس بقاعدةٍ تسري على الجميع.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات