تحولات الدور التركى فى الساحل الإفريقى - قضايا إفريقية - بوابة الشروق
الخميس 4 ديسمبر 2025 8:45 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

كمشجع زملكاوي.. برأيك في الأنسب للإدارة الفنية للفريق؟

تحولات الدور التركى فى الساحل الإفريقى

نشر فى : الخميس 4 ديسمبر 2025 - 8:05 م | آخر تحديث : الخميس 4 ديسمبر 2025 - 8:05 م

تشهد منطقة الساحل الإفريقى تحولات أمنية وجيوسياسية متسارعة خلال السنوات الأخيرة، مع تراجع النفوذ الغربى - خصوصًا الفرنسى - ما فتح المجال أمام قوى جديدة أبرزها تركيا التى تسعى لترسيخ حضور عسكرى وأمنى مؤثر فى مالى والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد. ويستند هذا الصعود إلى انتقال أنقرة من دور مورد عسكرى إلى فاعل أمنى عبر شراكات تشمل مبيعات السلاح والتدريب والاستشارات؛ ما يمنحها قدرة على التأثير فى توازنات الأمن الإقليمى. وقد أسهمت الانقلابات العسكرية منذ عام 2020 فى تهيئة بيئة مواتية لهذا التمدد بعد انسحاب فرنسا وتقليص واشنطن تعاونها الدفاعى؛ ما خلق فراغًا ملحوظًا سارعت تركيا إلى ملئه عبر تعزيز العلاقات الدفاعية مستفيدة من صورتها كـ«شريك موثوق» يوفر سرعة استجابة ومرونة فى التوريد وتكلفة منخفضة. وتزداد جاذبية المنظومات التركية لكونها أقل كلفة من البدائل الغربية، وتوازى فى فاعليتها المعدات الروسية والصينية؛ الأمر الذى يمنح أنقرة موقعًا متقدمًا يتجاوز دورها التقليدى كمورد للسلاح.
• • •
يمثل الحضور العسكرى التركى فى منطقة الساحل نموذجًا مركبًا يجمع بين تصدير التكنولوجيا الدفاعية المتقدمة، وتوفير التدريب والاستشارات، وبناء شبكات نفوذ داخل مؤسسات الدفاع المحلية، دون الحاجة إلى نشر قوات تركية مباشرة، ويمكن توضيح ذلك كما يلى:
• تكنولوجيا المسيرات: تعتمد تركيا على الطائرات المسيرة بوصفها ركيزة أساسية لتمددها العسكرى فى دول الساحل؛ حيث أصبحت المسيرات من طراز بيرقدار أكنجى أداة محورية لإعادة صياغة ميزان القوة فى هذه الدول؛ نظرًا لقدرتها على توفير مراقبة دقيقة وضربات منخفضة التكلفة مقارنة بالمنظومات الغربية، إلى جانب غياب القيود السياسية والبيروقراطية التى تفرضها الدول الأوروبية والولايات المتحدة.
• العربات المدرعة والأنظمة البرية: توفر أنقرة منظومة متكاملة تشمل عربات (Hızır ،Ejder Yalçın ،Kirpi) إلى جانب أنظمة مراقبة متنقلة واتصالات ميدانية، وقد أسهمت هذه القدرات فى إحداث تحولات واضحة على مستوى الأداء العسكرى؛ ففى مالى، غيرت مدرعات (Kirpi) طبيعة الدوريات التى كانت تعتمد تاريخيًا على معدات فرنسية ثقيلة وصعبة الصيانة. كما وفرت حماية أعلى ضد العبوات وأتاحت حرية التنقل بين النقاط العسكرية المعزولة.
• برامج التدريب والدعم الاستشارى: تركز أنقرة على إعداد ضباط الصف وتطوير وحدات النخبة للجيوش المحلية من خلال دورات متخصصة فى مكافحة الإرهاب، والتدريب القتالى، وإدارة الأزمات، إلى جانب نقل الخبرة فى بناء وحدات الاستطلاع والاستخبارات وربطها بالقيادة الميدانية. وفى مالى، اضطلعت الفرق التركية بتدريب عناصر القوات الخاصة ووحدات التدخل السريع على تكتيكات قتال العصابات داخل التضاريس المعقدة للغابات والسهول، فيما ركزت فى بوركينا فاسو على رفع جاهزية قوات مكافحة الإرهاب ووحدات الدرك الوطنى، مع إيلاء اهتمام خاص لآليات مواجهة الكمائن فى الطرق الريفية.

• • •
تسعى أنقرة إلى ترسيخ حضور عسكرى وأمنى متنامٍ فى منطقة الساحل عبر مقاربة تقوم على نفوذ متدرج منخفض التكلفة، مدفوع باعتبارات جيوسياسية وأمنية واقتصادية متداخلة. ويرتكز هذا النهج على توظيف تكنولوجيا عسكرية متقدمة، وإبرام اتفاقيات دفاعية واسعة، وبناء شبكات نفوذ رسمية وغير رسمية، بما يمكّن تركيا من ملء الفراغ الناتج عن تراجع الحضور الفرنسى وتقليص الانخراط الأمريكى، وتحويل منطقة الساحل إلى محور استراتيجى مرتبط بمصالحها الممتدة من غرب إفريقيا إلى ليبيا وشرق المتوسط، ويمكن رصد ذلك تاليًا:
• بناء شراكات دفاعية: تعمل تركيا منذ عام 2020 على إعادة صياغة علاقاتها الدفاعية مع دول الساحل عبر منظومة شراكات شاملة تضم التدريب والتسليح ونقل التكنولوجيا، متجاوزة دور «المورد» إلى «الشريك الأمنى». وقد برزت النيجر بوصفها نقطة ارتكاز أساسية لهذا التوجه من خلال اتفاقيات دفاعية تشمل إنشاء قدرات صناعية محلية وتدريب وحدات خاصة وتوريد منظومات متقدمة من الطائرات المسيرة والمدرعات. وتأتى أهمية هذا التوجه من كونه يعد بديلًا عمليًا عن الفجوة التى خلّفها انسحاب فرنسا وفتور التعاون الأمريكى، فى وقت تتجه فيه حكومات دول الساحل نحو تنويع مصادر الدعم الأمنى.
• استراتيجية تمدد محسوبة التكلفة: ترتكز المقاربة التركية على نموذج نفوذ أمنى لا يعتمد على انتشار قوات قتالية مباشرة، بل على توظيف التكنولوجيا العسكرية وخدمات الشركات الدفاعية والمستشارين. ويتيح هذا النموذج لأنقرة بناء حضور فعّال دون التكلفة المالية والبشرية التى تتحملها القوى التقليدية، وفى الوقت نفسه يوسع قدرتها على التأثير فى تشكيل بنية الأمن الإقليمى.
• تعزيز الموقع الجيوسياسى لتركيا عبر بوابة الساحل: تمثل منطقة الساحل منصة جيوسياسية تتيح لتركيا توسيع نطاق نفوذها غربًا نحو خليج غينيا وجنوبًا نحو نيجيريا، وربط هذا الفضاء الجديد بامتداد نفوذها فى ليبيا وشرق المتوسط. ويُنظر إلى الساحل كحاجز جغرافى مهم يؤثر فى ديناميات الهجرة غير النظامية والتجارة والطاقة، وهو ما يمنح تركيا أوراقًا إضافية فى تعاملها مع أوروبا.
• تأمين المعادن والموارد الاستراتيجية: تولى تركيا أهمية كبيرة للمعادن الحرجة المنتشرة فى منطقة الساحل، لا سيما الليثيوم والذهب فى مالى، واليورانيوم فى النيجر، والذهب فى بوركينا فاسو، إضافة إلى معادن أخرى مثل الكوبالت والنيكل. وتعتمد الصناعات الدفاعية التركية والتكنولوجيا المتقدمة والطاقة النظيفة على هذه الموارد؛ ما يدفع أنقرة إلى بناء علاقات اقتصادية وأمنية تضمن استدامة سلاسل التوريد وتقليل الاعتماد على الأسواق التقليدية.
• • •
يسهم الحضور العسكرى التركى فى دول الساحل بشكل مباشر فى إعادة تشكيل موازين القوة الإقليمية، عبر تزويد الجيوش المحلية بالطائرات المسيرة، العربات المدرعة، وأنظمة المراقبة الأرضية؛ ما يمنح هذه الدول قدرة أكبر على مراقبة الحدود وملاحقة الجماعات المسلحة والمتمردة بتكلفة أقل مقارنة بالمنظومات الغربية التقليدية. كما يعزز الدعم التركى التدريب التكتيكى وتقديم الاستشارات العملياتية؛ ما يقلل اعتماد هذه الدول على التدخل العسكرى المباشر من القوى التقليدية، ويمنح أنقرة تأثيرًا ملموسًا فى معادلات القوة الإقليمية.
ويمتد النفوذ التركى إلى صناعة القرار السياسى والأمنى، من خلال الشراكات الدفاعية، الاتفاقيات الأمنية، وتقديم المستشارين العسكريين؛ ما يجعل تركيا فاعلة فى صياغة سياسات الأمن الوطنى للدول الشريكة ويقلل اعتمادها على القوى الغربية التقليدية. ويتعزز هذا التأثير عبر ربط المؤسسات المحلية بالصناعات الدفاعية التركية من خلال عقود بيع السلاح والصيانة والتدريب؛ ما يخلق ارتباطًا هيكليًا طويل الأمد بين الجيوش المحلية والشركات التركية ويضمن استمرار مصالح اقتصادية متواصلة لأنقرة، ليصبح النفوذ التركى عنصرًا ثابتًا فى البنية الدفاعية لدول الساحل، بدلًا من أن يكون مجرد تعاون عابر.
وعلى الصعيد الاستراتيجى، يشكل الحضور التركى فى الساحل أداة فاعلة على المستويين الإقليمى والدولى، إذ يوفر لأنقرة أوراقًا تفاوضية فى ملفات الهجرة والأمن الإقليمى، مع تعزيز دورها فى توازن القوى بين الدول الكبرى ومناوراتها بين المصالح الأوروبية والإقليمية. كما يعمق هذا الانخراط التنافس مع فرنسا. وفى الوقت نفسه، يمنح موقعها الاستراتيجى كعضو فى حلف الناتو القدرة على العمل بشكل مستقل فى السوق الإفريقية، مع توفير توازن محتمل لنفوذ روسيا المتزايد؛ ما يجعل منطقة الساحل نقطة ارتكاز لتعزيز مكانتها الدولية وتأكيد دورها كشريك رئيسى للجنوب العالمى، من خلال تقديمها نموذجا تنمويا يعتمد على التنمية الاقتصادية والاجتماعية ذات المنفعة المتبادلة دون ربط الاستثمارات بشروط سياسية، بما يعزز نفوذها الجيوسياسى طويل الأمد فى المنطقة.
حاصل ما تقدم، تمثل الاستراتيجية التركية فى الساحل نقطة تحول فى معادلات النفوذ الإقليمى؛ إذ انتقلت أنقرة من دور المورد العسكرى إلى فاعل أمنى مؤثر يوظف التكنولوجيا المتقدمة والشراكات الدفاعية والوجود الاستخباراتى واللوجستى لبناء حضور متدرج منخفض التكلفة وعالى التأثير. ومع تراجع الدور الفرنسى والأمريكى، استطاعت تركيا ملء الفراغ الأمنى عبر تعزيز قدرات الجيوش المحلية وربطها بمنظوماتها الدفاعية؛ مما أتاح لها نفوذًا ممتدًا يتجاوز حدود التعاون العسكرى إلى التأثير فى صناعة القرار الأمنى والعسكرى. ويحوّل هذا الانخراط الساحل إلى محور رئيسى فى الاستراتيجية التركية الأوسع التى تربط بين غرب إفريقيا وليبيا وشرق المتوسط، بما قد يؤثر فى إعادة تشكيل خريطة التنافس الدولى فى المنطقة خلال السنوات المقبلة.

نسرين الصباحى
المركز المصرى للفكر والدراسات الاستراتيجية


النص الأصلى:

التعليقات