لقد بدأت معالم السياسة الخارجية الأمريكية تتبلور تدريجيا خلال فترة ولاية دونالد ترامب الثانية، مُبددةً بذلك مخاوف الدول الإفريقية المتعلقة بشأن قيام الإدارة الأمريكية الجديدة بالانفصال عن القارة السمراء. وما بدأ تلك المخاوف كان تشكيك إدارة ترامب فى المنظمات الدولية، ونفورها من السياسة الخارجية متعددة الأطراف، وتفضيلها للنهج الثنائى فى المعاملات. كما أدى نهج «أمريكا أولا» إلى إعادة إحياء حالة عدم الثقة والقلق اللذين شابا العلاقات بين واشنطن ودول القارة السمراء خلال فترة ولاية ترامب الأولى. كما أنها لم تُعيّن سوى ثلاثة سفراء فقط بالقارة، وتحديدا فى جنوب إفريقيا والمغرب وتونس؛ أما بقية الدول فإما لديهم سفراء من الإدارة السابقة، أو سفراء يعملون بصفة مؤقتة، أو أن مقاعد السفراء لديهم شاغرة.
وقد قدمت مشادة دبلوماسية سابقة بين واشنطن وجنوب إفريقيا صورة عن الدبلوماسية الخشنة والمعاملة القاسية التى سيتعين على إفريقيا تحملها على مدى سنوات ولاية ترامب الأربع. فخلال اجتماع عقد فى واشنطن بشهر مايو بين الرئيس الأمريكى ترامب والرئيس الجنوب إفريقى سيريل رامافوزا، هاجم الأول نظيره الإفريقى بشدة مستخدما مقطع فيديو يروج لادعاءات مزعومة عن إبادة البيض والاستيلاء على أراضيهم بجنوب إفريقيا. ثم اتضح أن هذه المواجهة كانت إجراءً انتقاميا اتخذه ترامب ردا على رفع جنوب إفريقيا دعوى قضائية ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية؛ لاتهام الأخيرة بارتكاب إبادة جماعية فى غزة.
• • •
لقد تزامن عدم اهتمام إدارة ترامب الملحوظ بإفريقيا مع تراجع النفوذ الأمريكى بالقارة. ففى عام 2024، أغلقت الولايات المتحدة قواعدها العسكرية فى تشاد والنيجر بناءً على طلب الدولتين المضيفتين بسبب الاستياء الشعبى المتزايد من القوى الغربية. كما أن الأزمة السودانية المستمرة - والتى تُهدد بالتحول إلى صراع طويل الأمد - من وجهة نظر العديد من المحللين تُعد خير دليل على تراجع النفوذ الأمريكى؛ بسبب عجز الولايات المتحدة عن ممارسة النفوذ السياسى اللازم على الأطراف المتحاربة لوقف القتال.
ومع تحول العالم نحو نظام سياسى متعدد الأقطاب حاولت بعض القوى الإفريقية الناشئة استغلال الفراغ الناجم عن انسحاب أمريكا من القارة السمراء. ومع ذلك، تشير القمة رفيعة المستوى الأخيرة مع رؤساء دول الغابون وغينيا بيساو وليبيريا وموريتانيا والسنغال إلى أن واشنطن ليست غافلة عن المنافسة الجيوسياسية المتزايدة بالقارة.
هذا وكشفت إدارة ترامب عن أنها تنوى مواجهة المنافسة على النفوذ والموارد الإفريقية من خلال الفرص التجارية، بدلا من برامج التعاون الدبلوماسى والأمنى التقليدية، واستبدال المساعدات بالتجارة. غير أن نموذج التجارة، لا المساعدات، الذى تقترحه إدارة ترامب لإفريقيا قد يخلق وضعا مزدوجا يهدد بتقويض قدرة الولايات المتحدة على إعادة تأكيد نفوذها داخل القارة.
على الجانب الآخر، أشارت واشنطن إلى نيتها تقليص عملياتها العسكرية داخل إفريقيا؛ حيث أكد رئيس القيادة الأمريكية بإفريقيا، الجنرال مايكل لانغلى، أن الدول الإفريقية فى حاجة إلى بناء قدرتها اللازمة للاعتماد على ذاتها فى مواجهة قضايا انعدام الأمن والإرهاب وحركات التمرد. وعلى الرغم من أن هذه العمليات العسكرية التى كانت تقوم بها واشنطن بإفريقيا لم تكن شاملة؛ فإنها كانت تعمل على تخفيف مستوى المخاطر بالقارة.
وبالتالى، فبالنظر إلى التكاليف الاقتصادية والسياسية والبشرية التى ستتكبدها الدول الإفريقية عند مواجهة التهديدات الأمنية الإقليمية والعالمية، بما فى ذلك حركات التمرد والجماعات المسلحة الجهادية؛ فإنها قد تشعر بالضغط وتفضل إقامة علاقات أمنية مع قوى عالمية أخرى.
وللتغلب على ذلك، تدّعِى واشنطن بأن وجود المستثمرين الأمريكيين بالقارة السمراء يُقدم ضمانا أمنيا، كما تم تقديم مثال على ذلك عند التوسط فى اتفاقية السلام بين جمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا. ولتحفيز هذا النهج ومواجهة السياسة غير المُلزمة التى تنتهجها الصين وروسيا بإفريقيا، تقترح الولايات المتحدة تعديل بعض القيم الأمريكية الأساسية مثل حقوق الإنسان، وتعليق التحقيقات بموجب قانون منع ومكافحة ممارسات الفساد الأجنبية (FCPA).
ولكن بالنسبة لإفريقيا، فإن هذا النهج الذى تقترحه الولايات المتحدة يُخاطر بتصعيد انعدام الأمن والصراعات داخل القارة على المدى المتوسط والبعيد. ويظهر هذا من خلال اتفاقية السلام التى عقدت بين جمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا. فالطبيعة التجارية لهذه الاتفاقية تجعلها فى المقام الأول صفقة معدنية، مع وجود السلام كشرط ثانوى. أما فى جوهرها، فالاتفاقية لا تعالج التعقيدات والحقائق الأساسية التى تقوض آليات حل النزاعات التفصيلية الموجودة بمنطقة شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية المضطربة؛ ومن ثمّ فإن نهج الوساطة السلمى التبادلى (القائم على تبادل الصفقات) -الذى يفتقر إلى إيجاد حل سياسى للأزمة - لا يُمكن اعتباره آلية مستدامة طويلة الأمد لإحلال الأمن وحل النزاعات. وهناك أمران قد يفسران سبب اتخاذ نهج الوساطة التبادلية قصيرة الأجل هذا.
أولا، هناك قاعدة ترامب الانتخابية المحلية الأساسية، والتى أكد لها ترامب أن الولايات المتحدة لن تتورّط فى أوضاع أمنية معقدة طويلة الأمد، ووعد بانخراطات محدودة النطاق ذات عوائد اقتصادية ومالية أكبر للبلاد. ومن ثم، فإن هذا الوعد يُقيّد الولايات المتحدة عن تنفيذ أى اتفاق سلام؛ لأنه سيتطلب لتنفيذه مراقبة مستمرة طويلة الأمد من قِبل الحكومة الأمريكية والكونجرس، وبغياب هذه المراقبة، ستصبح الفرصة متاحة أمام الأطراف المتحاربة لتقويض الاتفاق من أجل مصالحها السياسية.
ثانيا، رغبة ترامب فى نيل جائزة نوبل للسلام؛ وهو الأمر الذى يفتقر إلى المصالح الوطنية الاستراتيجية كدافع. وقد أعرب ترامب عن أسفه لعدم حصوله على الجائزة رغم توسط إدارته فى اتفاقية السلام بين جمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا. وبالتالى، فثمة خطر كبير من أن تسعى الحكومة الأمريكية إلى حلول غير شاملة؛ ومن ثم غير فعّالة لفض النزاعات (بعد فشل مساعى ترامب للحصول على الجائزة).
• • •
على الجانب الآخر يثار التساؤل حول احتمالات تدخل الولايات المتحدة لموازنة التدخل المتزايد من القوى الصاعدة الجديدة بالشرق الأوسط فى القارة الإفريقية، خاصة وأنه يهدد بتفاقم انعدام الأمن الموجود بالفعل داخل المنطقة. وهذا التهديد يتصاعد بشكل خاص بإقليم القرن الإفريقى، حيث يؤدى التقارب بين التنافسات الجيوسياسية الإقليمية والشرق أوسطية إلى زيادة مخاوف نشوب حروب بالوكالة؛ إذ تدعم قوى مختلفة جهات فاعلة متعددة. والتحدى الأساسى هنا لا يتمثل فى التسابق بين منافسى الولايات المتحدة التقليديين (روسيا وإيران والصين)، بل فى الدول الصديقة التى تنتهج سياسات مخالفة لسياساتها التقليدية بالمنطقة؛ ومن ثم، يبقى من غير المؤكد ما إذا كانت إدارة ترامب ستكبح جماح هذه الدول الصديقة من المسارح الجيوسياسية الإفريقية ذات الأهمية الاستراتيجية الكبيرة لسياسة واشنطن الخارجية، وخاصة فى الحالات التى تتبنى فيها دولتان أو أكثر من هذه الدول مواقف متعارضة فيما بينها، أم أنها ستتركها تتحرك بحرية.
• • •
لقد أعاق النهج الثنائى للتعامل الذى تتبناه واشنطن التفاعل بينها وبين مختلف الدول الإفريقية، وأضعف القدرة على تطوير سياسة خارجية موحدة لتعزيز التعاون بين الولايات المتحدة ودول القارة. وأدى هذا بدوره إلى توليد شكوك وعدم ثقة واضطراب من ناحية الحكومات الإفريقية تجاه واشنطن؛ مما دفع تلك الحكومات إلى تنويع علاقاتها الدبلوماسية والاقتصادية وجذبها لقوى ناشئة أخرى. ويُنذر المشهد الجيوسياسى الجديد فى السياسة العالمية بتراجع النفوذ الأمريكى بإفريقيا؛ مما يُجبر واشنطن على إدارة تنافسها الاستراتيجى مع روسيا والصين والقوى الناشئة الأخرى داخل القارة ولكن بأدوات مختلفة.
بالنسبة لإفريقيا، فإن الفشل فى تحقيق التوازن الضرورى يُهدد القارة بأن تصبح ساحة معركة للحروب بالوكالة، حيث يمكن للجهات الفاعلة المحلية أن تقوم باستغلال مصالح القوى الخارجية المتنافسة لتحقيق أهدافها السياسية والاقتصادية. وكما اتضح من مبادرة الوساطة التبادلية بين جمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا، فمن غير المرجح أن تُسفر التدخلات السطحية عن حلول حقيقية مستدامة للنزاعات، وبالفعل فشلت الأطراف المتحاربة فى الالتزام بالاتفاق منذ يونيو، وسجّلت بعثة منظمة الأمم المتحدة لتحقيق الاستقرار فى جمهورية الكونغو الديمقراطية (مونوسكو) مقتل 1087 مدنيا خلال أعمال العنف فى إيتورى وشمال كيفو خلال تلك الفترة.
وأخيرا، قد تُبرم بعض الحكومات الإفريقية - الحريصة على كسب ود إدارة ترامب - اتفاقيات غير متكافئة تُهدد بتقويض القانون الدولى وأوضاعها السياسية والاجتماعية على المدى الطويل. ويمكن رؤية ذلك بالفعل فى تزايد عدد دول القارة التى تقوم بتوقيع اتفاقيات لاستقبال مهاجرين من دول ثالثة رحّلتهم الولايات المتحدة، مثل رواندا، والتى ستستقبل 250 مُرحّلا كجزء من اتفاقية وُقّعت فى أغسطس الماضى.
ديفيد واماجو
مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة
النص الأصلى: