تحديات أسعار الغذاء فى مصر - مدحت نافع - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 7:25 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تحديات أسعار الغذاء فى مصر

نشر فى : الإثنين 5 سبتمبر 2022 - 9:05 م | آخر تحديث : الإثنين 5 سبتمبر 2022 - 9:05 م
للشهر الخامس على التوالى يصدر مؤشر الغذاء لمنظمة الأغذية والزراعة «فاو» التابعة للأمم المتحدة معلنا عن انخفاض فى أسعار السلع الغذائية. المجموعات السلعية التى شملها المؤشر تتضمن الحبوب واللحوم والألبان والزيوت النباتية والسكر. على الرغم من تراجع المؤشر بشكل مستقر بما يعكس اتجاها للانخفاض من شأنه أن يؤثر على اتجاهات التضخم فى مختلف دول العالم، إلا أن المستوى العام للأسعار التى اشتمل عليها المؤشر ما زال أعلى بنحو 8% مما كان عليه العام الماضى، لكنه أفضل من مستواه عند اندلاع أزمة الحرب الروسية ــ الأوكرانية على أى حال.
يرى المراقبون أن تكلفة الغذاء هى واحدة من أهم العوامل المساهمة فى تعزيز التضخم حول العالم. أشارت منطقة اليورو أخيرا إلى أن معدل التضخم كان يسير بمعدل سنوى قدره 9.1٪ فى أغسطس وكانت الطاقة هى المساهم الأكبر بزيادات بلغت 38.3٪، لكن المواد الغذائية غير المصنعة جاءت فى مرتبة تالية بنسبة 10.9٪. لا يختلف الوضع كثيرا فى المملكة المتحدة والولايات المتحدة عن الوضع فى الاتحاد الأوروبى من حيث اتجاهات التضخم التى تعدت بنسب ملحوظة جميع المعدلات المستهدفة.
أظهر مؤشر منظمة الأغذية والزراعة أن هناك انخفاضات فى تكلفة فئات الأغذية التالية: الألبان واللحوم والسكر، مشيرا إلى أن أسعار لحوم الأبقار ومنتجات الأبقار الأخرى «انخفضت بسبب ضعف الطلب المحلى فى بعض البلدان المصدرة الرئيسة»، وربما يعكس ذلك تحول الأشخاص المستهلكين إلى بدائل أرخص ثمنا. وقد سجل مؤشر الفاو تراجعا حادا عن أعلى مستوى سجله فى مارس الماضى عند 159.7 لكنه (كما ذكرنا) لا يزال أعلى بعشر نقاط مما كان عليه قبل عام.
وإذا كانت قنوات العدوى المالية قد نقلت إلى مصر أزمات التضخم وارتفاع تكلفة الدين وركود العديد من السلع، فإن تلك القنوات المتمثلة أساسا فى سلاسل التوريد، والتجارة الخارجية، والنظم المصرفية وأسواق المال والسلع تمرر بدورها الانخفاضات المتتالية فى أسعار السلع الغذائية، ولكن بوتيرة مختلفة.
• • •
السبب الأساس فى أن تضخم الأسعار ينتقل بوتيرة وزخم أكبر من تراجع ذات الأسعار مرده عوامل كثيرة نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: العامل النفسى والتوقعات المستقبلية، تكلفة إدارة الأزمة، ضعف الرقابة على الأسواق وتراجع كفاءتها.
بالنسبة للعامل النفسى، فإن الأسواق فى أعقاب الأزمات الحادة تتعامل مع أى حركة تصحيحية فى الأسعار على أنها مؤقتة وغير مستدامة، وأن اتجاه الارتفاع فى الأسعار سوف يعود سيرته الأولى، ومن ثم لا حاجة إلى مراجعة أسعار المواد الغذائية فى الأسواق المحلية على خلفية تراجع الأسعار فى البورصات العالمية بشكل سريع. يساعد على ذلك ثقافة تسعير المخزون، فالمخزون الذى تم تكوينه من المواد الغذائية خلال فترة الأزمة تم شراؤه بمتوسط أسعار مرتفع نسبيا، ولا يتوقع إعادة تسعير المخزون بمعلومية الأسعار السائدة والتى تحتاج إلى فترة زمنية حتى تؤثر فى متوسط أسعار المخزون السلعى، بعدما تقوم الدولة والقطاع الخاص بالشراء وفقا لها.
ترى «كونا هاك» رئيس الأبحاث فى إحدى شركات السلع الزراعية أن المخاوف المتزايدة من الركود الاقتصادى أدت إلى مخاوف من انخفاض الطلب على أغذية مثل الذرة واللحوم والزيوت النباتية وغيرها من المنتجات. ومع ذلك، وبسبب مشاكل سلسلة التوريد المستمرة والوقت الذى يستغرقه تغيير الأسعار ليتم، فلن تشعر جميع البلدان بفائدة هذه الأسعار المنخفضة على الفور. وقد زاد تقلب الأسعار وفقا لهاك، التى استشهدت بموجات الحر الأخيرة فى أوروبا والفيضانات فى باكستان كأمثلة على التأثير المتزايد للطقس القاسى، على أسعار المحاصيل.
التوقعات المستقبلية إذن تحكمت بشكل كبير فى سلوك المشترين والبائعين للمواد الغذائية المهمة، فالرسائل الإيجابية التى أرسلها اتفاق الحبوب الذى تم بين روسيا وأوكرانيا بوساطة أممية وتركية، تسببت فى انخفاض أسعار القمح بنسب كبيرة، على الرغم من كون الشحنات التى خرجت من ميناء أوديسا الأوكرانى المتكدس به قرابة العشرين مليون طن من القمح، لا تزال محدودة للغاية. لكن الأسواق تقوم بالتسعير فى ضوء توقعات مستقبلية، نراها حاليا متضاربة تتراوح بين التفاؤل والتشاؤم، الأمر الذى يعزز من احتمالية التقلبات السعرية، ويؤخر من تمرير انخفاض الأسعار العالمية بسرعة وكفاءة إلى الأسواق المحلية. وقد حذر وزير الزراعة الأوكرانى الأسبوع الماضى من الضرر الوشيك للمحاصيل بسبب الحرب. ومن المتوقع أن تنخفض مساحة زراعة القمح والشعير فى أوكرانيا لموسم العام المقبل بنسبة 20٪ على الأقل بسبب الغزو الروسى، ويقول المجلس الزراعى الأوكرانى أيضا إن نقص الأموال سيؤدى إلى انخفاض الإنتاج.
العامل الآخر المؤثر فى آلية تمرير الانخفاض فى الأسعار هو تكلفة إدارة الأزمة. فإدارة الأزمة هى البديل الوحيد لإدارة المخاطر، وتلك الأخيرة تعتمد على احتمال وقوع الضرر، وتضع الضوابط والتدابير المختلفة للحد من والتحوط ضد ذلك الضرر المحتمل. أما إدارة الأزمة فتعكس تأخرا فى قراءة المشهد العام، وينتج عنها تحمل تكاليف باهظة لمحاولة إطفاء الحرائق بعد نشوبها، بما يشمله ذلك من أضرار الحريق، وصعوبة السيطرة عليه وإيقاف انتشاره.
فى أزمة روسيا ــ أوكرانيا مثلا تتحمل أوروبا كلها تكلفة باهظة لإدارة أزمة انقطاع إمدادات الغاز الطبيعى الروسى، والتى جاءت كنوع من الرد المباشر على العقوبات الاقتصادية الغربية على روسيا. أوروبا الآن تدير أزمة ماثلة بالفعل، فالشتاء على الأبواب، وكل بدائل الطاقة والاستيراد أقل كفاءة وأعلى تكلفة من الغاز الروسى، ولا بديل عن غلق بعض المصانع وانقطاع الكهرباء على بعض المستخدمين وإعادة تسعير مصادر الطاقة بشكل حاد، من شأنه أن يؤثر سلبا على أسعار مختلف السلع والخدمات، نتيجة لقدرة التمرير السعرية الاستثنائية لمواد الطاقة إلى سائر السلع والخدمات. الطاقة تدخل فى الإنتاج والنقل والتخزين والتبريد... وهى تشكل عنصرا مهما فى التكلفة لمختلف الصناعات وفى مقدمتها الصناعات كثيفة الطاقة مثل الحديد والصلب والألومنيوم والسبائك، ولا يمكن استثناء الصناعات الغذائية من هذا الأثر حتى وإن كانت أقل اعتمادا على الطاقة من الصناعات المعدنية مثلا.
ولأن تكاليف إدارة الأزمة كبيرة، فإن الجهات التى أدارت وتدير الأزمات الاقتصادية الراهنة تريد أن تستخدم آلية الأسعار لتعويض جانب من تلك التكاليف، وليس من المتوقع أن تسارع إلى خفض الأسعار بمجرد أن تبدأ أسعار السلع فى الانخفاض عالميا.
من أهم الأسباب التى تؤخر تمرير انخفاض الأسعار إلى الأسواق المحلية ضعف الرقابة على الأسواق وتراجع كفاءتها. الأسواق الأكثر كفاءة تكون قادرة على أن تعكس الأسعار السائدة فيها مختلف المعلومات المتاحة عن السلعة أو الأصل محل التداول. هذا ما تخبرنا به نظرية كفاءة الأسواق التى يعرفها جيدا دارسو ودارسات أسواق المال، لكن أثرها ينسحب بالتأكيد على مختلف الأسواق. أما تراجع الرقابة، فهى سمة كثير من الأسواق فى الدول النامية التى تغيب عنها المنافسة الحرة كآلية مثلى لضبط الأسعار ومنع الاحتكار والإضرار بالمستهلك. البديل الوحيد لغياب المنافسة يكون بتدخل جهات التنظيم والرقابة لمنع الممارسات الاحتكارية، والحد من تخزين السلع أو حرقها للتأثير على أسعارها، بغية تحقيق قدر من العدالة للمستهلك، على أن تلك الرقابة يجب ألا تأتى على مصلحة المنتج والتاجر، الذى يتحمل الكثير من الصدمات على إثر الأزمة، ومن الطبيعى أن يحاول تعويض بعض أضراره على المدى الطويل بدلا من تحميل المستهلك بكامل أثر الصدمة دفعة واحدة، وهذا من العوامل التى تؤدى إلى استمرار ارتفاع الأسعار محليا لفترة زمنية أطول نسبيا، لكون أثر ارتفاع الأسعار فى بداية الأزمة لم يمرر كاملا إلى المستهلك، وإنما تم تقسيطه (إن جاز التعبير). وكثيرا ما أستشهد فى مقام تغليظ الرقابة على الأسواق بمرسوم الإمبراطور الرومانى الشهير «دقلديانوس» الذى صعد بالعقوبة على احتكار القمح إلى حد الإعدام، الأمر الذى أتى بنتيجة عكسية كارثية، تمثلت فى عزوف المزارعين والتجار عن التعامل فى القمح مخافة الموت! حتى شرفاء المتعاملين لن يسلموا أبدا من احتمال الخطأ فى اتهامهم بالمخالفات، وهذا الاحتمال ترتفع تكلفته مع ذلك المرسوم إلى حد مخيف لا يحتمله أى شخص رشيد. لكن سرعان ما تم سقوط مرسوم «دقلديانوس» وذهب الرجل ومرسومه إلى غير رجعة.

كاتب ومحلل اقتصادى


مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات