تختلف حرب «طوفان الأقصى»، كما أسمتها «حماس»، أو «السيوف الحديدية» كما أسمتها المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، أو «حرب البعث»، كما يحلو لـ«بنيامين نتنياهو» تسميتها ويصر على ذلك، عن سائر الحروب التى خاضتها إسرائيل، من وجوه عدة. أحدثت هذه الحرب انقساما حادا داخل قمة هرم الائتلاف الحكومى الإسرائيلى، بين رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، ووزير دفاعه، يوآف جالانت، حول طريقة إدارة الحرب واليوم التالى لها، وحول إدارة ملف الأسرى. لكن، باستثناء الخلاف بينهما، التف الائتلاف، بقضه وقضيضه، حول نتنياهو، رغم بعض المزايدات السياسية من جانب زعيمى حزبين يمينيين دينيين متطرفين، تحركهما أيديولوجية عنصرية توسعية، تدعو إلى تجويع الأطفال فى غزة، وضربها بالقنابل النووية، وإعادة احتلالها، وإقامة مستوطنات يهودية بها، هما بتسلئيل سموتريتش، وإيتمار بن جفير، وأعضاء حزبيهما.
لكن ثمة بعدا مهما يتعلق بمدى الثقة العامة فى القيادة السياسية، التى تدير الحرب، عبّر عنه «جيل ريجف»، الرئيس السابق لشعبة الموارد بالجيش الإسرائيلى، خلال حرب 1973م، بقوله: «فى حرب 73 ارتكبنا أخطاءً دفعنا بسببها ثمنا فادحا، لكننى لم أفقد ثقتى فى القيادة للحظة، أما قيادة الدولة اليوم فيتولاها أصحاب مصالح تحركهم دوافع شخصية وفئوية فقط، ولا يهمهم الصالح العام، لذا لا أثق بهم. إننى أتمنى نهاية لهذه الحكومة فى كل يوم جديد».
أما على المستوى الشعبى، فإن هناك إجماعا عاما، غير مسبوق، على الحرب ذاتها، إذ لم يصدر أى نقد ضد الحرب، فى حد ذاتها، أو ضد ضرورة مواصلتها، ولم تنشأ حركات احتجاجية ضدها مثلما جرى فى الحرب الإسرائيلية على لبنان عام 1982م، لكن جرى انتقاد لطريقة إدارتها فقط. مكَّن هذا الإجماع الشعبى الحكومة من تعبئة قوات الاحتياط تعبئة كاملة لأكثر من مرة، دون أن يكون ثمة تململ، باستثناء حالات فردية أو جماعة هامشية لا وزن لها.
• • •
تختلف هذه الحرب، عن سابقاتها، فى أنها لم تكن ضد جيوش نظامية لدول، وإنما ضد تنظيمين مسلحين، لا يمتلكان طائرات، أو مدرعات، أو سفن حربية، هما «حماس» فى غزة، و«حزب الله» فى لبنان، وفى أن الجيش الإسرائيلى، الذى يُوصف بأنه الجيش «الأقوى» فى الشرق الأوسط، ما يزال عاجزا، حتى الآن، بعد مرور أكثر من عام، على حسم الحرب لصالحه، وفى أن الردع الإسرائيلى تلقى ضربة موجعة.
تختلف هذه الحرب، عن سابقاتها، فى أنها وسَّعت دائرة الصراع، لتشمل إيران والتنظيمات الموالية لها فى اليمن، والعراق، وسوريا، وفى أنها تهدد باندلاع حرب إقليمية شاملة. للمرة الأولى تحدث مواجهات مباشرة بين إسرائيل وإيران، تبادل خلالها الطرفان الضربات، وما تزال المواجهة مفتوحة، وفى امتدادها إلى الضفة الغربية، حيث ازداد عدد العمليات الفلسطينية منذ السابع من أكتوبر، وكثَّف الجيش الإسرائيلى من غاراته على المدن الفلسطينية فى الضفة الغربية المحتلة، مع استعمال المسيَّرات، وحتى الطائرات المقاتلة لشن هجمات جوية عليها، للمرة الأولى منذ عقدين، بالتزامن مع ازدياد وتيرة الهجمات العنيفة من جانب المستوطنين الإسرائيليين ضد المدنيين الفلسطينيين العزل. إنها الحرب الأطول، حتى الآن، فى تاريخ الحروب الإسرائيلية ـ مضى أكثر من عام على الحرب ولا أحد يعرف بعد متى وكيف ستنتهى.
تختلف هذه الحرب، عن سابقاتها، فى أن القيادة السياسية الإسرائيلية، نتنياهو تحديدا، لم تبلور استراتيجية واضحة إزاء اليوم التالى للحرب، خاصة فيما يتعلق بقطاع غزة والتعامل مع إيران. ربما تكون هناك رؤية فيما يخص التعامل مع حزب الله فى لبنان، تتعلق بتطبيق القرار 1701، وإبعاد «حزب الله» إلى ما وراء نهر الليطانى، ونزع سلاحه، وتقليص نفوذه بداخل الدولة اللبنانية، وانتخاب رئيس لبنانى يلقى قبولا إسرائيليا، لكن ليس هناك استراتيجية شاملة واضحة إزاء التعامل مع ملفات كبرى، تتعلق بمستقبل الدولة الإسرائيلية، نفسها: هل ستحيا على حد السيف إلى الأبد؟ هل ستظل فى صراع أبدى مع القوى الفلسطينية المطالبة بحقوقها المشروعة؟. بالطبع، يأمل نتنياهو فى التوصل إلى تطبيع مع كل الدول العربية، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، وإقامة تحالف إقليمى من الدول المطبعة، تحت مظلة أمريكية، فى مواجهة إيران، لكن أمله يبقى، فى ظل غياب حل للمسألة الفلسطينية، أملاً مراوغا غير قابل للتحقق.
كشفت هذه الحرب مدى تعلق وجود إسرائيل بالولايات المتحدة الأمريكية، التى قدمت لها دعما عسكريا، وماديا، وسياسيا، لولاه لما استطاعت الصمود طوال هذه المدة فى الحرب، باعتراف المحللين الإسرائيليين، أنفسهم. يكفى أن نشير إلى أن الرئيس الأمريكى، جو بايدن، أرسل، فى الأسبوع الأول من الحرب، عددا غير مسبوق من القوات الأمريكية إلى المنطقة للمساعدة فى الدفاع عن إسرائيل، ولردع إيران و«حزب الله» عن فتح جبهات جديدة ضدها، فضلاً عن المشاركة الفعلية لهذه القوات فى التصدى للهجومين اللذين شنتهما إيران ضد إسرائيل فى ليلة الرابع عشر من أبريل 2024م، وفى الأول من أكتوبر من العام نفسه. صحيح، أن أبواق نتنياهو، فى الائتلاف الحكومى، يهاجمون إدارة بايدن، بضراوة، لكن رؤساء الهيئة الأمنية، بحسب ناعوم برنياع، فى يديعوت أحرونوت، «يتوسلون لواشنطن، هاتفيا، من أجل إمدادهم بالذخيرة، والأمر نفسه فيما يخص تبادل الهجمات مع إيران: تستطيع الدجاجة الإسرائيلية التحليق حتى ارتفاع الجدار الذى تحدده الإدارة الأمريكية فقط».
• • •
فى معظم الحروب السابقة، حسمت إسرائيل المعركة، لصالحها، بضربة خاطفة وسريعة، لكن هذه الحرب، لم تُحسم بعد، على جميع الساحات، ولا يبدو فى الأفق القريب أى حسم حقيقى لها، رغم استعمال أقصى قدرة تدميرية، ورغم اغتيال معظم قادة «حماس» و«حزب الله»، بسبب إصرار التنظيمين على المضى قدما فى المواجهة، وإفشال الأهداف الرئيسة للحرب.
لقد حدد مجلس الحرب الإسرائيلى، أهداف الحرب على غزة فى: إطلاق سراح الأسرى بالقوة العسكرية، والقضاء على القدرات العسكرية والسلطوية لـ«حماس» فى القطاع، وتحقيق النصر المطلق، لكنه لم يحقق هدفا واحدا منها، حتى الآن؛ وتعهد بإعادة سكان الشمال الإسرائيلى إلى منازلهم - نحو ستين ألفا - وبإبعاد قوات «الرضوان»، التابعة لـ«حزب الله» إلى ما وراء نهر الليطانى، لكنه أخفق، حتى الآن، فى تحقيق هذه الأهداف أيضا، وليس من الواضح كيف سيحققها.
تعد هذه الحرب التحدى الأكبر، الذى يواجهه المشروع الصهيونى، برمته، منذ ظهوره فى نهاية القرن التاسع عشر، وليس دولة إسرائيل فقط. بنى المشروع الصهيونى استراتيجيته على منهج استقوائى، تُستعمل فيه القوة والمزيد من القوة لتركيع الشعب الفلسطينى، ولترسيخ وجوده، وها هو ذا يفشل، بعد قرابة قرن، فى أن يكون جزءا طبيعيا من المنطقة. أحدثت هذه الحرب انقلابا على مستوى الصورة الذهنية لإسرائيل فى العالم، بما فى ذلك بين يهود العالم أنفسهم، حيث جرى تغير للأسوأ. فقد تبدلت صورتها من دولة «تقدمية»، و«متحضرة«، و«ديمقراطية»، و«مستقرة»، و«طبيعية» إلى دولة عنصرية، وهمجية، وبربرية، وعدوانية، ومنبوذة، ولولا الدعم السياسى الأمريكى لها فى أروقة الأمم المتحدة لفرضت عليها عقوبات قاصمة.
أثار هذا التحول فى الصورة الذهنية حفيظة كثير من الساسة والإعلاميين، ومنهم بن درور يمينى، فى «يديعوت أحرونوت»، الذى اتهم معظم أساتذة كبرى الجامعات فى أمريكا والغرب، ممن احتجوا ضد الوحشية الإسرائيلية، بـ«الاصطفاف مع (محور الشر)، وبتبرير (المذبحة)، وباتهام إسرائيل بالكولونيالية، وبارتكاب إبادة جماعية، وبأنهم (يكذبون) بلا كلل، وبأنهم يقومون بغسل أدمغة طلابهم، وبأنهم حولوا الجامعات إلى مواقع لـ (محور الشر)». لقد اتضح لكثيرين، بعد هذه الحرب، بخاصة، أن بؤرة الشر الحقيقية، فى المنطقة، هى العقلية، الاستعمارية، الإسرائيلية، ذاتها، المدعومة أمريكيا وغربياً، وليس القوى المناضلة من أجل نيل حقوقها، وأن هذه التسميات، والمصطلحات، المعلَّبة، لم تعد تنطلى على أحد.
• • •
لقد عبَّر نير كيبنيس، فى (والا)، فى رأيي، عن الورطة التى تعانى منها إسرائيل بسبب هذه الحرب، بعد مرور عام على بدايتها، تعبيرا صادقا، بقوله: «تكمن المشكلة فى أننا، فى غضون ذلك، موحولون فى حرب استنزاف، وفى أنها الحرب الوحيدة التى لا نستطيع خوضها لفترة طويلة، ناهيك عن التخوف من أن الرد على إيران قد يدفع باتجاه تصعيد نُضطر فيه إلى استعمال كل الوسائل التى فضلنا عدم استعمالها منذ البداية (استعمال السلاح النووى؟). لقد عادت إسرائيل، بعد شهر من المبادأة العسكرية الإيجابية (سلسلة اغتيالات قيادات «حزب الله» و«حماس») تخوض فى الوحل، وتتصرف مثل حصان غُطيت عيناه لا يدرى إلى أين يسلك. لذا، نحن نقف، بعد عام من الحرب، فى أسوأ مكان يمكن أن نكون فيه: بدون أمل فى تحقيق نصر عسكرى مطلق، وبدون أمل فى تحقيق تسوية سياسية تكمل نصرا عسكريا محدودا. ما الذى نحن عليه بدلا من ذلك؟ مزيد من الخلافات الداخلية، ومن تخفيضات التصنيف الائتمانى، ومن الأحداث التى تجعلنا منبوذين، مثل الحصار فى مجال الطيران، لكن الأخطر من كل هذا هو، المزيد من القتلى الذين لا تستحق القيادة الإسرائيلية تضحياتهم. حقا، إنها حربٌ مختلفة، وفارقة، أيضا، على الصعيد الاستراتيجى بالمنطقة.