عودة إلى عالم الإمبراطوريات - محمد بدرالدين زايد - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 3:52 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عودة إلى عالم الإمبراطوريات

نشر فى : الأحد 6 مارس 2022 - 8:05 م | آخر تحديث : الأحد 6 مارس 2022 - 8:05 م
تتواصل تفاعلات الأزمة الأوكرانية كأخطر أزمات العالم منذ عقود، وتنذر بمخاطر وتحولات واسعة النطاق، ومع دقة هذه الأزمة فإن هناك ضرورة للتأنى قبل إطلاق الأحكام التى تسود كثيرا من المنابر، كما يعقد الأمور أن تأمل طوفان الأخبار والتحليلات حول ما يحدث فى أوكرانيا بهدوء يكشف أن هناك حالة تعمية إعلامية واضحة حول ما يحدث بالفعل على الأرض فى هذه الدولة منذ بدء الغزو الروسى، وكأن هناك تواطؤا متعمدا بين الإعلام الغربى والروسى معا فى هذا الصدد. فإذا كانت المعلومات التى ذكرها الرئيس بايدن ورئيس الوزراء البريطانى والمصادر الغربية الرسمية والإعلامية دقيقة، والتى تضمنت حشودا تتراوح ما بين مائة ألف ومائة وخمسين ألف مقاتل روسى، واليوم يتحدثون عن عدد أكبر بمختلف تشكيلاتهم القتالية، فنحن إذن نتحدث عن حجم مهول ومن جانب قوة عظمى عسكرية، لا يتناسب معها أن يبدو ما يحدث على جبهات القتال غامضا بدرجة على الأقل نسبية.
ومعنى ما سبق أنه إذا كان المشهد العسكرى تحيط به معلومات قليلة ومتناقضة وشحيحة بين الجانبين، فإن استشراف الأمور بالتالى أمر بالغ الصعوبة مع ضرورته لنعرف إلى أين يسير العالم، ولكى نبلور مصالحنا وكيف ستتأثر بما سيحدث. ومع ذلك فإننا جميعا مدعوون للاجتهاد فى هذه المرحلة الصعبة من تاريخ البشرية التى لا تتعلم من دروس التاريخ، ورغم أن هذه الدروس واضحة إلا أنه يتم تجاهلها كما اعتادت البشرية عبر تاريخها الطويل.
ونعود إلى المشهد الخاص بالأزمة، فإذا كان المشهد العسكرى لا يزال على درجة من الغموض النسبى، فإن المشهد السياسى أكثر وضوحا، وأهم سماته أن هذا الغزو قد فشل فى الأجل القصير على الأقل فى تقسيم الغرب، بل على العكس أعاد درجة كبيرة من الوحدة إلى الصفوف الغربية، وربما كان الأخطر من كل ذلك رسائل السويد وفنلندا بدعم عسكرى لأوكرانيا، والأخطر التوجه الألمانى لتعظيم القدرات العسكرية والتحول الكبير من الموقف السابق والذى كان حريصا على ترك مسافة مع واشنطن وعدم مسايرتها ومحاولة الاحتفاظ بالعلاقات الخاصة مع موسكو، بعبارة واضحة من أهم النتائج ضرب التقارب السياسى والاقتصادى الروسى ــ الألمانى، وإلى حد أقل التقارب الروسى ــ الفرنسى، وفى جميع الأحوال التسابق الأوروبى على إعلان تقديم الدعم العسكرى لأوكرانيا.
الخسارة الثانية لروسيا هى فى الموقف الدولى المعارض لها والذى تمثل فى الهزيمة السياسية التى واجهتها فى الجمعية العامة للأمم المتحدة حين صوت معها خمس دول فقط، وصوتت ضدها دول صديقة تاريخيا كمصر وعدد من الدول العربية والآسيوية، كما امتنع عدد كبير من أصدقائها وحلفائها التاريخيين عن التصويت وعلى رأسهم الصين، التى كانت موسكو تعول عليها، والهند الصديق التاريخى، فمن الصعب القبول بغزو أراضى دولة مستقلة وإلا انهار السلم الدولى تماما.
سارعت بعض التحليلات إلى طرح أن هذه الحرب مُقدمة لترسيخ عالم متعدد الأقطاب، وأن التقارب الصينى ــ الروسى سيغير كذلك المعادلات الراهنة فى هذا الاتجاه، ولكن جاء رد الفعل الصينى الحذر والممتنع عن التصويت سواء فى مجلس الأمن أو فى الجمعية العامة للأمم المتحدة ليفرض مراجعة ضرورية بشأن هذه التصورات، وحقيقة الأمر أننا كنا نتعامل مع عالم تسوده السيولة ومرونة التحالفات النسبية قبل هذا الغزو الروسى، وأن عددا من تدخلات روسيا السابقة سواء فى جورجيا أو شبه جزيرة القرم أو فى سوريا كانت ترسخ بوضوح من هذه المعانى وكانت تشكل مع تراجع واشنطن سمات متصاعدة لفكرة التعددية، ومن ثم لا تشكل هذه الحرب ترسيخا لهذا المعنى بقدر ما تشكل إعادة لفكرة بناء إمبراطورية روسيا مجددا، وكأن بوتين يرسخ أنه سواء كانت روسيا القيصرية أم الاتحاد السوفيتى أو الاتحاد الروسى المعاصر فإن الحرص لا يتوقف عن فكرة بناء مشروع الدولة الإمبراطورية، وأن هناك مجتمعات تسقط فريسة هذا النوع من الطموح، ولو أضفنا إلى هذا ما نراه سابقا من حالتى تركيا وإيران لفهمنا مغزى هذه التحولات فى بنية النظام الدولى منذ فترة، كنتيجة لحالة السيولة والإخفاق الدولى المزمن.
هذا الإخفاق متعدد الأبعاد، على رأسه ما يمكن تسميته بالخلل المزمن فى النظام الدولى ممثلا فى الأمم المتحدة وعجزها عبر عقود تارة بسبب الحرب الباردة، وتارة أخرى بسبب سوء إدارة واشنطن للمنظمة فى مرحلة هيمنتها، وفى جميع الأحوال يظل حق النقض أو الفيتو الذى اختصت به الدول الخمس الكبرى أداة تعويق وتعجيز المنظمة عن أداء عملها فى حفظ السلم والأمن الدوليين، مصحوبة بهيمنة غربية من خلال أدوات عدة للسيطرة أبرزها التمويل، ليسفر كل هذا مع المعايير المزدوجة التى تدمنها البشرية وخاصة الغرب عن هذا الفشل المزمن الذى سمح فى العقد الأخير بشكل خاص بعودة مظاهر توسع وتدخل دولى يستقطع أراضى ويرتب نفوذا خارجيا كما نرى فى ساحة الأزمات العربية.
ما نريد قوله إن المشهد الراهن ــ إذا نجح الغزو الروسى ــ ينتمى إلى عالم إعادة الإمبراطوريات ومفاهيم الأمن التقليدية بأكثر من ترسيخ تعدد الأقطاب؛ لأن هذا التعدد كان بالفعل أقرب للتحقق، ولم يكن بحاجة لهذه الحرب، من هنا جاء عنوان المقال أن هناك توجها نحو عالم القرن التاسع عشر، أى أنه سيناريو مظلم للبشرية يرسخ من غلبة القوة ويعيد مفاهيم قديمة، ومن جهة أخرى ــ وهذه هى الكارثة ــ فإن كسر روسيا سيعيد هيمنة الغرب بشكل غير مسبوق ليواصل إدارته للعالم بنفس المعايير المزدوجة وممارسة حق التدخل بحسب المصالح والأحوال، وسيصبح العالم فى الحالتين أكثر سوءا مما كان قبل الغزو. كم هى صادمة النتائج المحتملة لهذه الحرب وأى مفارقة علينا أن نعيشها ونتعامل معها فى بلادنا ودول الجنوب.