فى تصعيد جديد يكشف هشاشة النظام الدولى، شنت إسرائيل ضربات جوية داخل الأراضى الإيرانية، فى خطوة تنذر باتساع رقعة الاشتباك الإقليمى فى لحظة يغمرها التوتر والانفجار من أوكرانيا إلى غزة، ومن اليمن إلى السودان. هذا التصعيد ليس سوى مشهد إضافى فى سلسلة انهيارات متتالية تطال نظامًا دوليًا يُفترض به توفير الحد الأدنى من الاستقرار، لكنه يبدو عاجزًا ومتراجعًا أمام موجات الصراع خاصة التى تقودها إسرائيل فى منطقتنا. فى قلب هذا النظام، تقف منظمة الأمم المتحدة كأداة يفترض أنها تحمى القانون وتدير الأزمات، لكنها تعانى اليوم من أزمة غير مسبوقة. فقد كشفت وكالة رويترز عن مذكرة داخلية تُظهر خططًا لتقليص نحو 6900 وظيفة، ضمن محاولة لخفض ميزانية المنظمة بنسبة 20%. تعكس هذه الخطوة أزمة مالية وتنظيمية عميقة تهدد شرعية الأمم المتحدة، وتكشف عن مأزق أوسع يطال أداء النظام الدولى كله. فبين فشل فى وقف الحروب، وعجز عن فرض قرارات، وصراع على الشرعية، يصبح السؤال ملحا: هل نشهد تآكلًا تدريجيًا لنظام ما بعد الحرب العالمية الثانية؟ وهل تمثل هذه التراجعات مقدمة لنهاية مرحلة تاريخية؟
• • •
قبل قرن من الزمن تأسست عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى بهدف منع الصراعات الدولية، ولكنها لم تصمد طويلا وكان أول أسباب تهاوى النظام الدولى بين الحربين كان غياب القوى الكبرى عن العصبة. الولايات المتحدة، رغم اقتراح رئيسها وودرو ويلسون تأسيسها، لم تنضم إليها بسبب رفض الكونجرس، ما أضعف شرعيتها منذ البداية. الاتحاد السوفيتى كان بعيدًا حتى 1934، ثم طُرد بعد غزو فنلندا، فيما انسحبت ألمانيا وإيطاليا مع صعود الأنظمة الفاشية التى رفضت الالتزام بالنظام الدولى. العصبة أصبحت كيانًا ناقص التمثيل وبدون ثقل الفاعلين الأساسيين، ما أفقدها القدرة على فرض قراراتها والحفاظ على هيبتها الرمزية.
اليوم، نعيش هذا النقص بصيغة جديدة، حيث رغم عضوية الجميع فى الأمم المتحدة، أصبحت مشلولة أمام الحروب الكبرى. مجلس الأمن الذى يفترض أن يكون أداة ردع، صار ساحة صراع بسبب الفيتو والصراعات بين القوى الكبرى، تمامًا كما كانت العصبة عاجزة أمام غزو إثيوبيا. المشاهد فى غزة، أوكرانيا، اليمن، والسودان تظهر المجازر تتحول إلى نشرات أخبار بينما المنظمة تقف عاجزة وأحيانًا صامتة. ما يزيد الوضع هشاشة هو انسحاب قيادة هذا النظام الدولى الولايات المتحدة فى عهد ترامب، من مؤسسات وأجسام أممية، مما يعكس تفكك الالتزام الدولى الجماعى.
• • •
المشهد الثانى المشابه هو الخلل البنيوى فى عصبة الأمم بعدم وجود آليات فعلية لتنفيذ قراراتها أو ردع العدوان. العصبة لم تمتلك قوة عسكرية، واعتمدت على عقوبات اقتصادية ودبلوماسية غالبًا ما كانت هشة أو غير مطبقة بصرامة. هذا العجز منعها من كبح جماح الدول المعتدية أو حماية الشعوب التى تمثلها. واليوم المنظومة الدولية عادت تفتقر لأدوات فعالة، والعقوبات أصبحت أداة مركزية لعملها، وهى أداة أثبتت منذ التسعينيات أنها تضر بالشعوب أكثر من الأنظمة الحاكمة، فى العراق، سوريا، السودان، وروسيا تحمل الشعوب فيها ثمن العقوبات، ما يقوّض العدالة الدولية ويضعف ثقة الشعوب بالمنظومة الأممية.
أحد أوجه القصور التى ساهمت بسقوط عصبة الأمم كانت الازدواجية فى تطبيق المعايير. القوى الكبرى، خصوصًا بريطانيا وفرنسا، لم تتعامل مع العصبة كمنظومة قيمية لضبط العلاقات الدولية، بل كأداة لخدمة مصالحها الإمبريالية. استخدموها عندما تتوافق قراراتها مع أجنداتهم، وعطّلوها أو تجاهلوها عند التعارض مع مشاريعهم الاستعمارية. العصبة فقدت بذلك شرعيتها الأخلاقية، وبدت للعديد خصوصًا فى المستعمرات كأداة لتعميق هيمنة المنتصرين فى الحرب العالمية الأولى، لا لبناء سلم دولى عادل.
اليوم لا يختلف المشهد، حيث النظام الدولى بات رهينة توازنات القوى الكبرى التى تفرض أجندتها وتُعطّل المؤسسات الأممية حين تتعارض مصالحها معها. الفيتو الأمريكى الأخير فى مجلس الأمن ضد مشروع قرار لوقف إطلاق النار فى غزة رغم تأييد باقى الأعضاء يعكس كيف يمكن لقوة منفردة أن تعطل إرادة المجتمع الدولى، ما كشف انعدام معايير مشتركة أو أخلاق موحدة وتحول النظام الدولى إلى مرآة لصراعات النفوذ.
فى اختبارات الردع، فشلت عصبة الأمم فى وقف العدوانيات الكبرى فى الثلاثينيات، مثل غزو اليابان لمنشوريا، اجتياح إثيوبيا من إيطاليا، والتوسع النازى فى أوروبا. عجزها عن اتخاذ إجراءات فعالة فضح حدود قدرتها وأضعف الثقة فيها كضامن للسلم العالمى. اليوم، الأمم المتحدة تسير على درب مشابه فى عالم أكثر اتصالًا ومراقبة. غضب الجنوب العالمى على صمت النظام الدولى إزاء جرائم واضحة كما فى غزة لا يعبر فقط عن غضب شعبى بل عن انهيار ثقة بمنظومة يفترض أنها تمثل القانون والعدالة لكنها تنكفئ أمام ازدواجية المعايير. المقارنة مع أوكرانيا تعبّر عن إدراك أن الأرواح تُثمّن بحسب التموضع سياسى وليس القانون الدولى.
• • •
الانهيارات السياسية لا يمكن فصلها عن جذورها الاقتصادية، فى الثلاثينيات، ساهم الكساد الكبير فى تعزيز النزعات القومية والانغلاق الاقتصادى، ما أضعف عصبة الأمم وفتح المجال لصعود نظم عدوانية تبحث عن توسع خارجى كحل لأزماتها. اليوم، نرى ملامح مشابهة مع أدوات معاصرة، حيث أزمة 2008 المالية وما تلاها من سياسات تقشف وأزمات متلاحقة مثل كوفيد والحروب التجارية عمقت الفجوات بين الشمال والجنوب وأعادت إنتاج التنافس على الموارد والنفوذ. الأدوار المتضخمة لبعض الدول الصاعدة خارج أوزانها الحقيقية تعكس محاولة لانتزاع مكان فى نظام لم يعد يوزع النفوذ بالقانون بل بمنطق الغلبة، وهو مشهد لنظام رأسمالى مأزوم يولد استقطابات تشبه تلك التى سبقت الحرب الكبرى.
من الأسباب البنيوية لانهيار النظام الدولى طبيعة النظم السياسى التى تشارك فيها، فما بين الحربين كانت هشاشة القيم الديمقراطية وغياب الالتزام بها، وصعود الفاشية فى ألمانيا وإيطاليا كانت بداية النهاية للنظام الدولى الذى رفضته هذه القوى وسخرت منه. اليوم نرى مشهدًا مشابهًا مع صعود اليمين الشعبوى وتراجعه عن قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان حتى فى دول كانت تعتبر حارسة للنظام العالمى. ما نشهده من قمع مظاهرات مؤيدة لفلسطين فى برلين، وتعامل ترامب مع مظاهرات لوس أنجلوس، وسلوكيات تتجاهل القانون الدولى فى ضرب إسرائيل إيران، يكشف عن بنية واهنة للنظام العالمى باتت قيمه بلا تأثير حقيقى.
• • •
حين اندلعت الحرب العالمية الثانية عام 1939، كان واضحًا فشل عصبة الأمم فى منع حرب كبرى. العصبة انهارت بينما الدبابات تعبر الحدود والطائرات تمطر المدن بالقنابل. اليوم، فى ظل تفكك المعايير، ازدواجية القرارات، وعجز المنظومة الدولية عن حماية المدنيين أو منع الحروب، تتكرر المشاهد بأدوات مختلفة. النزاعات تتوسع والثقة بالقانون الدولى والمنظومة ككل تتآكل، والجنوب العالمى يرى المؤسسات الأممية كغطاء للهيمنة لا أداة للعدالة، وإسرائيل تلعب دورا مركزيا فى إفقاد النظام الدولى لمعناه وجدواه. فى ظل هذا الوضع نجد المشهد الدولى أمام ثلاث أسئلة الأول السؤال الراهن: هل سيظهر فاعلون عاقلون يقومون بإصلاحات جذرية تعيد التوازن والشرعية؟ وسؤال خطير، هل العالم متجه نحو كارثة بحجم الحرب العالمية الثانية كإعلان رسمى عن موت النظام الدولى الراهن؟ وسؤال مهم، هل المجتمع الدولى ومستعد لبناء نظام بديل أكثر عدالة واستقرارا وأقل نفاقًا وهشاشة؟