شهد العالم ما بعد الحرب العالمية الثانية صعودًا لمجموعة من المفاهيم وُلدت فى مواجهة الفاشية والنازية، أى فى سياق انتصار على أشكال شعبوية عنيفة وهى سيادة القانون، التداول السلمى للسلطة، والمؤسسية والحريات المدنية. وتم إجمال هذه المفاهيم فى الديمقراطية كنظام سياسى، صحيح أنها لم تكن ديمقراطية واحدة؛ إذ ظل التوتر قائمًا بين نموذج ليبرالى تمثيلى، وآخر اجتماعى أكثر ارتباطًا بالعدالة والتوزيع. لكن يمكن اعتبار هذا النظام أحد أعمدة النظام الدولى الحديث. المفارقة الآن أن النظام ذاته بات يواجه اليوم صعودًا جديدًا لأشكال متجددة من الشعبوية، لا تأتى من الأطراف فقط، بل تسيطر على المركز نفسه.
لم يعد الحديث عن الشعبوية مقتصرًا على تحليل ظواهر طارئة أو شخصيات مثيرة للجدل. كما تبيّن كاثرين فيسكى فى كتابها «شعبوقراطية: طغيان الأصالة وصعود الشعبوية، أصبحت الشعبوية بنية قائمة بذاتها، تتحكم فى الفضاء السياسى داخل كثير من الديمقراطيات الغربية. ما يحرك هذا التحول ليس الفقر أو الأزمات الاقتصادية فقط، بل الشعور العميق بالخيانة: أن هناك من خان العقد الديمقراطى، فالنخبة لم تعد تعبر عن «الشعب الحقيقى». يتقاطع ذلك مع ما يقدمه سول نيومان وماكسيميليان كونراد فى كتابهما «الشعبوية ما بعد الحقيقة: نموذج سياسى جديد، الذى يوضح أن الشعبوية الحديثة لا تهاجم النخب فقط، بل تهاجم مفهوم الحقيقة نفسه، لتنتج «مواطنًا ما بعد - حقيقى»، لا يثق فى المؤسسات، ولا يُصدّق إلا ما يشعر به، لا ما يعرفه.
• • •
فى هذا السياق، تبدو السياسة أقل فأقل كمجال للمداولات العامة، وأكثر فأكثر كساحة للانطباعات والانفعالات. يتحول المواطن إلى مستهلك للمعنى، ينتقى «حقائقه» من خوارزميات وسائل التواصل، بينما تُختزل الديمقراطية إلى تفاعل رقمى مبنى على استقطاب أخلاقى: «نحن» النقيّون مقابل «هم» الفاسدون. هنا تفقد المؤسسات الوسيطة – من أحزاب ونقابات وصحافة – دورها، وتُستبدل بمنصات رقمية فردانية، فى عملية تُنتج شكلا من «الشعبوقراطية» كما تسميها فيسكى، حيث يُحكم باسم الشعب من خارج أى وساطة جماعية حقيقية.
التجربة الأمريكية فى عهد دونالد ترامب تكشف هذه الدينامية بوضوح: تحقير مستمر للمؤسسات القضائية، انسحاب من الاتفاقات الدولية، وهجوم مباشر على الإعلام والبيروقراطية. هذه الممارسات لا تهدّد فقط الديمقراطية الأمريكية من الداخل، بل تقوّض ما تبقى من شرعية النظام الدولى الذى بُنى بعد الحرب. فعندما لا تحترم الدولة الأقوى فى العالم التزاماتها الدولية أو مؤسساتها الرقابية، يُصبح من العبث الحديث عن قانون دولى أو قواعد حاكمة.
يمكن رصد هذا التآكل فى فاعلية النظام الدولى بوضوح من خلال تعاطيه مع جريمة الإبادة الجماعية الجارية فى غزة. فعلى مدار شهور، واصلت إسرائيل شنّ هجمات ممنهجة استهدفت المدنيين والبنية التحتية الحيوية، من مستشفيات ومدارس ومراكز إيواء، بلا تمييز، وسط حصار خانق ومتعمد. وقد اعتبرت محكمة العدل الدولية فى لاهاى، فى قرارها الصادر فى يناير 2024، أن ثمة «أساسًا معقولًا» للاشتباه بأن إسرائيل ترتكب أفعالًا تندرج تحت تعريف الإبادة الجماعية، وطالبتها باتخاذ تدابير فورية لوقف هذه الأفعال. كما وثّقت تقارير أممية عديدة، من بينها تقارير مجلس حقوق الإنسان ولجنة التحقيق الدولية، أنماطًا ممنهجة من الانتهاكات، تشمل الاستهداف المتعمد للمدنيين، وتجويع السكان كأداة حرب، وتدمير شامل للأحياء السكنية.
ومع ذلك، ظلت المؤسسات الدولية عاجزة عن فرض أى شكل من أشكال المساءلة الفعلية، مكتفية ببيانات قلق، أو دعوات فارغة إلى «ضبط النفس». هذا الصمت المُؤسسى، أمام إبادة موثقة وعلى الهواء مباشرة، لا يعكس فقط عجزًا سياسيًا، بل يضرب فى جوهر النظام الدولى ذاته، ويُفرغه من معناه الأخلاقى والقانونى، حيث تُصبح العدالة خاضعة لميزان القوى، لا لمبادئ القانون والضمير الإنسانى.
غياب المؤسسات لا يعنى فقط فراغًا إداريًا، بل يفتح الباب أمام اللاعقلانية، والتبسيط، و«السياسة الرمزية». وتصبح الكاريزما الشخصية، وادّعاء تمثيل «الإرادة الحقيقية للشعب»، أدوات سلطوية تتنكر فى عباءة ديمقراطية. لا عجب أن نشهد فى هذا المناخ تراجعًا حادًا فى الثقة بالسياسة والمؤسسات، وعودة إلى أنماط من التقديس للزعيم، وكأن الديمقراطية لم تُخلق لتحمى المواطنين من جموح السلطة، بل لتعزّزه.
• • •
لكن لماذا تتراجع الديمقراطية؟ ليس فقط بفعل الشعبويين، بل بسبب تعثرات النظام نفسه، لقد فشلت الديمقراطية النيوليبرالية فى الحفاظ على وعدها الاجتماعى. فتفكيك دولة الرفاه، وخصخصة الخدمات العامة، وتحويل السياسة إلى إدارة تكنوقراطية، خلقت شعورًا بالهشاشة والإقصاء لدى الطبقات الوسطى والفقيرة. ومع غياب بدائل تقدمية مقنعة، ملأ الشعبويون هذا الفراغ بخطابات الهُوية والحنين والمؤامرة.
فى هذا السياق، لا يمكن إغفال البعد التكنولوجى كمكوّن أساسى فى تفكك الديمقراطية الحديثة وصعود أنماط بديلة من الفعل السياسى تُغذّى الشعبوية. كما يوضح بول فيريليو فى كتابه «آلة الرؤية»، نحن نعيش فى «زمن علم بلا ثقافة» حيث ينفصل فيه التقدّم العلمى والتقنى عن الثقافة كمنظومة قيم، ما حوّل أدوات المعرفة من وسائل لتحرير الإنسان إلى أدوات للسيطرة عليه. فالتدفق الكثيف للصور والمعلومات لا يُعمّق الفهم، بل يُنتج «العمى بالوفرة» حيث يحل الإبهار البصرى محل التأمل والسياق. فى هذا المناخ، تتحول السياسة إلى مشهد متواصل، تُختزل فيه الحقيقة إلى ما يُرى لا ما يُفهم، ويُمارَس العنف لا بالقمع الجسدى بل عبر «عنف ناعم» يملى على الأفراد أنماط استهلاكهم وسلوكهم وهويتهم، دون وعى منهم.
الحالة الإسرائيلية تقدم نموذجًا صارخًا لهذا النمط، كما يُحلّله دانى فيلك. الشعبوية هناك ليست فقط أداة انتخابية، بل جزء من بنية النظام ذاته. تتغذى على التوترات الإثنية والدينية، وتُعرّف «الشعب» بطريقة إقصائية، تستبعد العرب، والمثقفين، وحتى القضاء أحيانًا. نتنياهو، بشعبويته القومية والدينية، جسّد هذا التحول من شعبوية «شاملة» إلى «استبعادية»، مدعومة بنيوليبرالية متوحشة، وفجوات طبقية صارخة. قانون «الدولة القومية» الإسرائيلى نموذج صريح على هذا المسار: تقنين للتمييز، وتكريس للاستثناء، كل ذلك باسم «الشعب اليهودى».
ولعل أخطر ما فى هذه الدينامية هو أثرها على المنطقة: فإسرائيل تُصدّر نموذجًا قمعيًا يبرر سياساته داخليًا وخارجيًا باسم «الشرعية الانتخابية» و«الأغلبية الأخلاقية»، بينما تُغذّى بعض الأنظمة العربية شعبوياتها الخاصة، من خلال سرديات عن المؤامرة، والتخوين، والطائفية. حيث تتقاطع الشعبوية مع السلطوية لتُفرغ السياسة من مضمونها، وتستبدل المطالب الاجتماعية بلغة الانتماء والهوية، لا العدالة والمواطنة.
تراجع الديمقراطية ليس أزمة داخلية فقط، بل أحد أبرز تصدعات النظام الدولى. حين تنهار الثقة فى الحقيقة، ويُختزل المواطن فى عاطفة، وتُقصى المؤسسات لصالح الزعيم، يصبح العالم أقل قدرة على التعاون، أقل استقرارًا، وأكثر عُرضة للانفجار. فالشعبوية، كما تُظهر التجارب، لا تُنتج حلولًا، بل تُفاقم الأزمات، وتُحوّل الديمقراطية إلى واجهة فارغة تُبرر بها سلطوية ناعمة أو خشنة.
• • •
فما العمل؟ لا يكفى رفض الشعبوية أو «تصحيح الأكاذيب». لا بد من إعادة بناء المعنى السياسى ذاته. من استعادة الإيمان بأن الديمقراطية مشروع عقلانى وجماعى، يقوم على المشاركة، لا على الدعايا؛ على المؤسسات، لا على الخوارزميات؛ على العدالة الاجتماعية، لا على الهوية المنغلقة. وعلى إعلام الخبر لا إعلام الاستقطاب، ولثقافة سياسية تعيد للمؤسسات الوسيطة قيمتها، لا تلغيها باسم «الشفافية المباشرة. ويتطلب كل هذا مراجعة شاملة للنيوليبرالية التى قوّضت الأسس الاجتماعية للديمقراطية».
ربما لا نملك بعد نموذجًا جاهزًا لهذا البديل، لكننا نملك أدوات التفكير فيه. ولعل أولى خطوات إصلاح النظام الدولى أو خلق بديل له أكثر عدالة وفاعلية أن نسمّى الأشياء بأسمائها: أن الشعبوية ليست «انحرافًا»، بل عرضٌ لانهيارٍ أعمق. وأن الديمقراطية، لكى تُنقذ، تحتاج إلى ما هو أكثر من انتخابات، تحتاج إلى أفق اجتماعى جديد، يعيد تنظيم العلاقة بين الفرد، والمجتمع، والدولة، على قاعدة العدالة، والحرية، والكرامة.