‎الفاشر.. مأساة عربية قابلة للتكرار - مصطفى كامل السيد - بوابة الشروق
الأحد 16 نوفمبر 2025 11:15 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

كمشجع زملكاوي.. برأيك في الأنسب للإدارة الفنية للفريق؟

‎الفاشر.. مأساة عربية قابلة للتكرار

نشر فى : الأحد 16 نوفمبر 2025 - 6:40 م | آخر تحديث : الأحد 16 نوفمبر 2025 - 6:40 م

‎تجدَّد الاهتمام بالحرب الأهلية الجارية فى السودان الشقيق منذ أسبوعين. صحيح أنه اهتمام يأتى متأخرًا لما وُصف بأنّه أكبر مأساة إنسانية يواجهها العالم فى الوقت الحاضر، نظرًا للعدد الهائل من البشر الذين تعرّضوا لانتهاكات مخزية لحقوقهم الأساسية إناثًا وذكورًا، رجالًا وأطفالًا، صغارًا وشيوخًا، ولقرابة ١٢ مليونا اضطروا للنزوح الداخلى أو الهجرة، وقرابة ثلاثين مليونا يواجهون خطر المجاعة. وهذا الاهتمام بكل تأكيد أمر محمود، لعلّه يفضى إلى عودة السلام لربوع السودان، وهو أمر يبدو مستبعدًا. ولكن سببًا آخر يستدعى الاهتمام بهذا الصراع الدموى، وهو أنه قابل للتكرار، لأن الظروف التى أدت إليه ظاهرة فى أماكن أخرى فى الوطن العربى وخارجه، ولأن تعدد وجوهه يجعل من الصعب الإمساك بخطوط السيطرة عليه، فضلًا على أنه على الرغم من كثرة الأطراف الخارجية المنخرطة فيه، فإن تناقض مصالحها يجعل الاتفاق بينها عسيرًا، كما أن درجة اهتمامها بتسويته ليست واحدة، بل إن مصلحة بعضها هى استمراره.

من المسئول عن ظهور هذا الصراع؟

‎السؤال الأول هو عن المسئولية عن ظهور هذا الصراع بين الجيش السودانى وبين الميليشيات المسلحة المعروفة بقوات الدعم السريع؟ أليس من المدهش أن يكون الجيش السودانى هو المسئول الأول عن ظهور غريمه؟ تاريخ محمد حمدان دقلو المشهور بحميدتى شهير. هو قائد تلك العصابات المسلحة «الجنجاويد» التى ترجع أصولها إلى القبائل العربية من الرعاة فى إقليم دارفور، والتى استعان بها حاكم السودان عمر البشير لمواجهة ثورة قبائل المساليت والفور والزغاوة من المزارعين ذوى الأصول غرب الإفريقية ضد تهميشهم فى ولاية دارفور فى ١٩٩٣، ثم ارتفع شأنه طوال فترة البشير وبعد الإطاحة بالبشير فى سنة ٢٠١٩ ليُعين جنرالًا ثم نائبًا للمجلس العسكرى الانتقالى الذى حكم السودان من إبريل ٢٠١٩ حتى مايو ٢٠٢٣، حتى غضب على ترتيبات تنظيم البيت السودانى بتوحيد التنظيمات المسلحة تحت قيادة الجيش، فأعلن حربه على سلطة الخرطوم. مثل دقلو ليس فريدًا؛ ففى حالات أخرى استعانت سلطات الدولة بجماعات إجرامية لكى تتولى القيام بالمهام «القذرة» التى تريد الترفع عنها. فعلها فلاديمير بوتين مع ميليشيات فاجنر فى إفريقيا وفى أوكرانيا، وفعلتها حكومة الولايات المتحدة مع الكونترا فى نيكاراغوا ومع شركة بلاكووتر التى أدارت سجن أبو غريب فى العراق خلال فترة الاحتلال الأمريكى له بعد سنة ٢٠٠٣، ودخلت حكومات أخرى عربية وغير عربية فى ممارسات شبيهة. ولاء هذه الجماعات الإجرامية ليس مضمونًا بكل تأكيد لمن تولى رعايتها فى ظروف مشابهة، وانقلابها عليه متى يحين الوقت الملائم ليس مستبعدًا. ولكن ذلك فى حد ذاته لا يحول دون تكرار هذه الحكومات نفس المحاولات.

الوجوه المتعددة للحرب فى دارفور:

‎الحرب الدائرة فى دارفور لها جذور متنوعة، وعندما تنجح بعض القوى فى الإمساك ببعضها، تنمو الجذور الأخرى وتتفرع. طبعًا هناك الشق الشخصى فى هذه الحرب وهو طموحات حميدتى أن يتولى السلطة فى الخرطوم، ولكن هذا الجانب هو الأقل أهمية. الأهم منه أنه يستند إلى الولاء الإثنى للقبائل التى ينتمى إليها، وتشمل قبائل الأبالة فى شمال دارفور والبقارة فى جنوب دارفور، وكان زعماء هذه القبائل ذات الأصول العربية قد عقدوا تحالفًا موسعًا فى ١٩٨٧ سُمى بالتجمع العربى، ضم ٢٧ قبيلة، ثم توسع ليشمل بعض قبائل كردفان ذات الأصول العربية ولها امتدادات خارج السودان. وهكذا يمكن لدقلو أن يستخدم هذا الولاء القبلى لتجنيد المزيد من الأنصار فى حالة أى نكسة تعانيها ميليشياته المسلحة. ومثل هذا الولاء القبلى الذى يستند إلى رابطة الدم هو الأكثر صمودًا فى حالات النزاع المسلح وحتى فى حالات الهزيمة، لأنه لا يرجع إلى أى حسابات عقلانية، ولكن حسابات المصلحة ليست غائبة. فقد تمكنت قوات الدعم السريع من السيطرة على موارد اقتصادية مهمة فى مساحات واسعة من جنوب دارفور الذى وقع تحت سيطرتها، من أهمها منجم للذهب وتجارة الصمغ العربى، وذلك فضلًا عن الدعم الخارجى الذى تتلقاه. بل لا يعدم أنصار الدعم السريع أن يجدوا مبررًا أيديولوجيًا لاستمرارهم فى الحرب ضد الجيش السودانى، فهم يتهمون قيادة الجيش السودانى بأنها استمرار لنفس الحكم الإسلامى الذى عرفه السودان فى ظل عمر البشير، وهو حكم سانده دقلو. والمدهش أن مثل هذا القول يلقى قبولًا من بعض القوى السياسية المدنية السودانية؛ فالجناح السياسى للدعم السريع يشمل قيادات مدنية شاركت فى حكم السودان بعد سقوط البشير، وفى مقدمتها د. عبد الله حمدوك الذى كان رئيسًا لوزراء السودان، ثم تحول حسب تقارير عديدة إلى انتقاد الجيش.
‎واتخاذ مواقف قريبة من مواقف الدول المصنفة بأنها أهم القوى الخارجية المؤيدة لقوات الدعم السريع، فضلًا عن حركات سياسية عديدة دارفورية ومن جيش تحرير السودان. ولكن الوجه الآخر الجدير بالاهتمام فى حرب دارفور هو مواقف القوى الخارجية.

قوى خارجية ذات مصالح متعارضة

‎خطورة التدخل الخارجى فى هذا الفصل من الحرب الأهلية فى السودان ليس أنه سبب هذه الحرب، إذ تعود معظم الصراعات الداخلية فى الدول العربية إلى صعوبة الاتفاق بين أطرافها المحليين الذين يعتبرون الصراع بينهم مباراة صفرية لا تُحسم إلا بكسب مؤكد لواحد منها فى مواجهة خسارة الطرف الآخر، ولكن خطورته ترجع إلى تفاوت درجة اهتمام هذه الأطراف بتسوية الصراع، وأن الأكثر اهتمامًا منها بذلك ليس بالضرورة هو أكثرها تأثيرًا على مساره.
‎لا تقل الأطراف المنخرطة بدرجة أو أخرى فى هذه الحرب عن عشرة أطراف إقليمية ودولية؛ فمن بين جيران السودان هناك تشاد وجمهورية إفريقيا الوسطى والإقليم الشرقى فى ليبيا، فضلًا عن إثيوبيا وإريتريا فى الشرق وأوغندا فى الجنوب، ومن الأطراف الإقليمية كل من مصر والمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات، ومن الأطراف الدولية الولايات المتحدة، وجرى ذكر كل من روسيا وحتى الصين فى بعض التقارير. كما بذلت محاولات لتسويته من قبل كل من منظمة «إيجاد» والاتحاد الإفريقى وجامعة الدول العربية والأمم المتحدة ومجلسها لحقوق الإنسان. ولكن الدول الأكثر متابعة ودأبًا على الانشغال به هى الرباعية التى تتألف من الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات ومصر. ويمكن رسم خريطة مواقف بعض هذه الدول على النحو التالى: تبرز المملكة العربية السعودية ومصر وتركيا باعتبارها من الدول المتعاطفة عمومًا مع الحكومة السودانية وقواتها المسلحة.
‎وتشير تقارير عديدة إلى أن دولة الإمارات هى الطرف الخارجى الأكثر تأييدًا لقوات الدعم السريع رغم نفى حكومة الإمارات لذلك، وبذلت الولايات المتحدة جهودًا لإقناع طرفى الحرب بقبول هدنة مدتها ثلاثة شهور والسعى بعدها ولمدة تسعة شهور لإيجاد تسوية سلمية له. ربما تتعاطف الحكومة التركية مع القوات المسلحة السودانية بسبب ماضيها كسند لنظام يدعى أنه إسلامى ومساندة تنظيمات إسلامية سودانية له. ويعود تأييد السعودية لها لحرص السعودية على كسب النفوذ فى هذه الدولة الإفريقية والعربية الكبيرة، وتخشى الولايات المتحدة امتداد النفوذ الروسى والصينى لها. وتشير بعض التحليلات إلى أن عداء دولة الإمارات لنظام الخرطوم يعود إلى ماضيه الإسلاموى.
‎أسباب اهتمام الحكومة المصرية بهذا الوضع لا تخفى؛ فالسودان دولة جوار تشترك مع مصر فى مجرى النيل. اضطراب الأوضاع فى السودان سيجلب على الحكومة المصرية هجرة مئات الآلاف من السودانيين، ويضعف موقفها فى مواجهة إثيوبيا ومشروعاتها على النيل، المصدر الأساسى للمياه فى مصر. كما أنه سيضع حكومة السودان فى يد قوى سياسية مثل الدعم السريع لم تُخفِ عداءها لمصر بل وأسرها لجنود مصريين، وهو ما يمثل خطرًا على الأمن الوطنى المصرى.
‎صعوبة حسم هذه القوى الخارجية لمواقفها إزاء هذا الصراع لا يعود فقط لاختلاف مصالحها، ولكن لأن درجة اهتمامها به متفاوتة. استمرار هذا الصراع يضر مباشرة بالأمن الوطنى المصرى، ولكنه لا يضر مباشرة بالأمن الوطنى لدولة الإمارات أو المملكة العربية السعودية أو الولايات المتحدة الأمريكية، ولذلك تبدو هذه الدول الثلاث أقل انزعاجًا به، حتى وإن كان وزير الخارجية الأمريكى قد أظهر فى الأيام الأخيرة قلقًا من استمراره، لكنه لا يقارن حتى بمسألة تهريب مخدرات من دول أمريكا اللاتينية للولايات المتحدة، وهو ما يبدو الشغل الشاغل للقوات البحرية الأمريكية خلال الأسابيع الأخيرة. ومع ذلك، وبحساب ما تنفقه كل من هذه الحكومات على هذا النزاع، فإن أكثرها اهتمامًا به ليست هى أكثر من ينفق عليه..

مصطفى كامل السيد أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة
التعليقات