جاء دستور 2014 ليحدث التوازن الحقيقى ما بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، عقب تغول واضح للسلطة التنفيذية، فمنح الدستور جملة من الاختصاصات لمجلس النواب تعلقت باتساع مهامه التشريعية وبما يحجم السلطات التنفيذية وأدوارها، حيث يحق للمجلس تقييد صلاحيات رئيس البلاد والحد منها وسحب الثقة منه، كما يحق له الدعوة لانتخابات رئاسية مبكرة، ناهيك عن اختصاصه الأصيل - وبما يتفق مع طبيعة النظم الرئاسية - وهو إقالة الحكومة حال عدم القبول ببرنامجها.
ربما غياب التوازن بين السلطات يتنافى تماما مع معايير ومقتضيات النظم الديمقراطية الحديثة، ولعل استمرار المشهد السياسى حتى بعد اكتمال معظم أركانه دون البرلمان فى الفترة ما بين 2014 وحتى 2016 بانعقاد أول برلمان عقب ثورتين، مثلت حالة من التفاعلات السياسية، إن لم تكن انفعالات برزت واضحة فى حالة السيولة السياسية والمجتمعية، سواء المتعلقة بالأحزاب والتحالفات، أو حجم الاحتجاجات والاضطرابات، وبينما كانت البلاد تخطو خطواتها الأولى ناحية عبور المرحلة الانتقالية، ليرسخ نفس البرلمان آلية مهمة لضبط هذه الانفعالات وحالة السيولة السياسية، ما أسهم إلى حد كبير فى استقرار المشهد السياسى، سيما مع توافر آليات القوى للمجلس وبحسب النصوص الدستورية، ما يلزمه أيضا بانتهاج القدرة التشريعية والسياسية للتخديم على البلاد واحتياجاتها، وفى ضوء اعتبارات مهمة صاغتها الدولة فى مقدمتها الاعتبارات الدستورية، إلى جانب الاعتبارات الأمنية والقضائية والأهم اللوجيستية، وبالتزامن مع إجراء الانتخابات.
لأن جوهر الديمقراطية يتمثل فى قوة الأفراد تجاه اختيار ممثليها، وليس مجرد الاختيارات الدستورية للنخب، أيضا الأصل فى الأمور يقتضى اعتبار الإيمان بالعدل والمساواة ضمن القناعات الراسخة لنظام حكم يؤمن ليس فقط بالحقوق لكن بسلطة نفس الأفراد فى اختيار من يمثلهم، ومع بدء تزايد الثقافة السياسية وانعكاساتها على المعرفة وآليات المشاركة، ومن ثم صياغة الوعى السياسى تدريجيًا. تجلى الإدراك الحقيقى بالأهمية التشريعية للمؤسسة الأهم والأقوى من بين مؤسسات الدولة عقب سنوات من الجهود المتواصلة والخالصة التى انخرطنا فيها مع مختلفة أجهزة الدولة من أجل ضرورة تكثيف أطر التنمية السياسية وخلق حالة من الثقافة السياسية، إلا أن المرحلة الأولى أثبتت أن كل هذه الجهود لم تهدر، وأن المصريين قد تَكَوَّنَ لديهم حالة كاملة شكلتها مجمل القيم المذكورة.
هنا وجب الإشارة إلى عدة من الملاحظات لم تكن متعلقة بالمرحلة الأولى وقط، لكن مجمل المشهد التشريعى.
- شكلت خريطة التحالفات الحزبية والسياسية، اتجاهات مهمة تبلورت فى التوافقات السريعة، حتى بعد حالة الحراك السياسى بالمشهد الحزبى، تحديدا ما يخص تغير الخريطة الحزبية عبر بروز أحزاب بعينها وتراجع أخرى، والأهم الاستقرار على القائمة الوطنية، والتى أثارت بعض الجدالات والملاحظات، تحديدا ما يخص النسب التمثيلية وتكرار بعض المرشحين، وهنا تحكمنا العلوم السياسية، على خلفية توافر دافعين مهمين فى هذا الإطار، الأول أن إدراك النائب البرلمانى لإمكانية ترشحه عبر القائمة مرة أخرى قد يدفعه إلى مزيد من الانخراط والإسهامات التشريعية، على العكس ما إذا كانت فترة واحدة، فربما لن يهتم بأية إسهامات، والمحدد الآخر يتعلق بأن النائب يُفترض أنه يتعاطى مع دوره البرلمانى سواء التشريعى والرقابى عبر إستراتيجيات محددة، قد يصعب الانتهاء منها عبر فترة واحدة، بالتالى يحق استكمالها عبر فترة أخرى، يٌفترض أيضا ختامها بكشف حساب يتوازى مع الفرص التى مُنحت له.
- ثمة قناعات عامة بدأت تتبلور ناحية إدراك المواطنين لفلسفة الجدوى التشريعية لمجلس النواب، أى الأهمية التشريعية بدليل بدء تلاشى رغبات الرأى العام والحريصة على نائب الخدمات، حيث تبرز المهام الأساسية والشاملة سواء المتعلقة بصياغة القوانين أو الرقابة على الأجهزة التنفيذية وإعداد الموازنات، كونها أكثر شمولية وكفيلة بتحقيق الخدمات الكاملة للمواطن.
- ارتفاع معدلات المشاركة بالريف والقرى - صحيح ما زلنا بصدد تسجيل الإحصاءات - إلا أن تسجيل الإقبال الملحوظ عُد مؤشرا على حالة الوعى السياسى والتى بدأت تُرصد مؤخرا، ما يعكس أيضا الحراك الحزبى المكثف، وإرهاصات مرحلة ترسخ لرشادة حزبية عقب أوضاع من السيولة الحزبية وأدوار هامشية، لم تكن على نفس المستوى الذى يستحقه المصريين، سيما أن أدواره ليست سياسية وقط كما يصنفها العديد من المراقبين، لكن أدوار الأحزاب، لا بد أن تتوازى مع احتياجات المواطنيين، على كل المستويات سياسية، واقتصادية، وحتى ثقافية ومجتمعية، والأهم أن تتوازى جهود الأحزاب وإصلاحات البلاد، تحديدا الاقتصادية، بما يخدم - عموما - جودة حياة الأفراد، وإن كانت مهمة تنفيذية بالأساس، إلا أن القواعد الجماهيرية والتعبوية للأحزاب تلزمها بالعديد من المهام الاقتصادية والمجتمعية، خصوصا مع انخراطها الواضح مع العديد من القضايا ليست فقط الداخلية، لكن عدة من القضايا الإقليمية والدولية المعاصرة والمؤثرة، وذلك عبر التمثيل لمصر وإعلان الاستنكارات أو حتى إبداء التوافقات.
- تصويت المصريين بالخارج انعكس بشكل واضح جدا على نسب مشاركة المصريين بالداخل، وبالرغم من أن ثمة عدة اعتبارات توقعنا مساهمتها كمحددات لنسب تصويت المصريين بالخارج قد تدفع أو قد تؤدى إلى تراجع نفس النسب، فى مقدمتها الطبيعة الديموجرافية لمصريين الخارج، وربما المتعلقة بالخلفيات المعرفية والثقافية، وتغير البيئة المحيطة، والترتيبات اللوجيستية واستعدادات القنصليات والسفارات، وجميعها خدمت للدفع بهذه النسب فى المرحلة الأولى.
رغم ما أشرنا إليه أعلاه، فى عوامل القوى المتوافرة للمجلس القادم، تظل فاعلية هذا المجلس مرهونة بالقدرة الحقيقية على تجويد حياة الأفراد وتسهيلها، فإن مُنح له كل آليات القوة التشريعية والدستورية، عليه تحويلها إلى مقدرة حقيقية لخدمة الوطن وأفراده.