رحم الله صلاح جاهين الذى كتب فى إحدى رباعياته الخالدة:
أنا اللى بالأمر المحال اغتوى
شوفت القمر نطيت لفوق فى الهوا
طولته .. ماطولتوش .. إيه أنا يهمنى
وليه؟! مادام بالنشوى قلبى ارتوى
ففى تلك الرباعية يلخص صلاح جاهين جانبا من فلسفته فى الحياة فهو لا يعير إمكاناته وقدرته على تحقيق أحلامه أى اعتبار، فمحاولة تحقيق الأحلام بحد ذاتها قيمة عليا تمنح حياتنا معناها الحقيقى.
أنا أيضا أشبه عمنا صلاح جاهين فى هذه الفلسفة، فقد كنت ومازلت أحلم، وأسعى - ما استطعت لذلك سبيلا- لتحقيق تلك الأحلام، لكن حين يعترضنى ما يحول دون تحقيقها، لا أحزن، بل أواصل وأبدأ من جديد على أمل أن يكتب لى النجاح فى المرات القادمة.
قلت من قبل إن عمنا صلاح جاهين كان من بين من تمنيت لقاءهم والجلوس فى حضرتهم، لكن هذا لم يحدث لسوء حظى، غير أنى التقيت كثيرا من الشعراء والأدباء والمثقفين الذين عرفوا الرجل وحفظوا له قدره ومكانته.
كنت صبيا حين قرأت للمرة الأولى رباعيات صلاح جاهين، وكنت فى تلك السنوات أهيئ نفسى لكى أكون طبيبا أديبا أو طبيبا شاعرا، ولم لا؟ فقد فعلها يوسف إدريس ومن قبله كان إبراهيم ناجى، وأنا قطعاً لست أقل منهما موهبة!
هكذا كنت أقول لنفسى، لكنى لم أصبح طبيبا ولا أديبا ولا شاعرا بل أصبحت صحفيا، فأخذتنى الصحافة إلى كل هذه العوالم التى تمنيت أن أدخلها، وتحققت من خلالها عدة أحلام من تلك التى سعيت لتحقيقها فى سنوات تشكيل الوعى وصياغة الوجدان.
لم تكن أحلامى شخصية وحسب، بل كانت أحلام لبلدى وأمتى تماما كما كان عمنا صلاح جاهين.
لم يخطئ صلاح جاهين حين كتب:
صناعة كبرى
ملاعب خضرا
تماثيل رخام ع الترعة
وأوبرا
فى كل قرية عربية
دى ماهيش أمانى
وكلام أغاني
دا بر تانى .. قصادنا قريب
يا معداوية
فقد كان يحلم مع الحالمين بغد أفضل لبلده وأمته، طبعا لم تتحق أحلام صلاح جاهين، التى حلمت بها معه بعد أن تغنى بكلماته / أحلامه عبد الحليم حافظ بنحو ربع قرن، لكننى لم أحزن وقلت يكفينا أننا حلمنا ونلنا نشوة محاولة تحقيق الأحلام
تأخذنى كلمات صلاح جاهين مجددا إلى ساحة الأحلام الواسعة حين يغرد:
ماليش كتير فى السياسة
لكن بافكر
وماليش كتير فى الكلام
لكن باعبر
من قلب مليان حماسة
وبقول كلام فى السياسة
باحلم تملى بالسعادة والأمان
باحلم أعيش من غير ما اخاف غدر الزمان
وان جيت ونولت المنى
يصعب عليا الهنا
من غير ما يتهنوا جميع الناس كمان
ما اسعدش غير ف وطن سعيد من حواليا
سمَوا الشعور ده حب ولا اشتراكية
ماليش كتير فى السياسة
هل هناك أبلغ من تلك الكلمات لتبسيط الأفكار والمعانى؟!
منح الله صلاح جاهين قدرة فائقة على تبسيط الأفكار الثورية إلى كلمات تصل إلى قلوب وعقول عموم الناس
كتب صلاح جاهين عام 1951 قصيدته «زى الفلاحين»:
القمح مش الدهب
القمح زى الفلاحين
عيدان نحيلة جدرها بياكل ف طين
زى اسماعين ومحمدين
وحسين أبو عويضة اللى قاسى وانضرب
علشان طلب
حفنة سنابل ريها كان بالعرق
عرق الجبين
ولدت شاعرية صلاح جاهين قبل ثورة يوليو 1952 لكنها اكتسبت مزيدا من الألق والتألق بعدها، فكان بحق ترجمان الثورة وصوتها.
وكان أيضا قلبها الذى تحمل خساراتها الفادحة، وذهب يبحث عن مواطن القوة الكامنة فى هذا الشعب العظيم ليعيد اكتشاف الأحلام.
ويقرأ فى دفتر أحوال الوطن الضاربة جذوره فى أعماق التاريخ.
ويسجل فى ملحمته «على اسم مصر»:
النخل فى العالى والنيل ماشى طوالى
معكوسة فيه الصور .. مقلوبة وانا مالى
يا ولاد انا ف حالى زى النقش ف العواميد
زى الهلال اللى فوق مدنة بنوها عبيد
وزى باقى العبيد باجرى على عيالى
باجرى وخطوى وئيد من تقل أحمالى
محنية قامتى وهامتى كأن فيها حديد
وعنيا رمل العريش فيها وملح رشيد
لكنى بافتحها زى اللى اتولدت جديد
على اسم مصر.
يا ألله على الجمال!
من كان مثل صلاح جاهين لا يموت، فأشعاره / أحلامه ستبقى.
وإن كان لم يكتب له أن يشهد تحقيق الأحلام، وإن كنا - لم يكتب لنا حتى الآن - أن نشهد تحقيق أحلامه، فقطعا سيأتى يوم لنشهد:
تمثايل رخام ع الترعة وأوبرا
فى كل قرية عربية.