فى البيت عروس وعرس! فى الحرب؟! نعم، والدنيا حرب! لا أعرف لمَ يصير أو كيف يصير عرس فى حرب!
فستان أبيض تلبسه عروس طبعا.. أراك تظن أننا لا نُلبس الأبيض إلا للجثث، حتى هذا توقف منذ شهور، ومن يجد جثة يدسها فى قبر، ومن لم يجد يعتبر كل الجثث لعائلته، ويزور القبور ويمشى فى الطريق ويرد السلام على كل القبور، هنا حيث كانت الحديقة، وهناك حيث كان المستشفى، وهنالك حيث كانت المدرسة!.
العروس تقف فى منتصف البيت بفستان أبيض، على جانبها الأيمن وقرب أذنها اليمنى تحديدا، تقف إحدى ساكنات البيت عند إحصاء صفات الحضور سيقول أصحاب البيت (نازحة عنا) ستقف وتغنى الزعقة أو (المهاهاة) قرب أذن العروس اليمنى تحديدا، وبصوت منخفض جدا كصوت الأذان فى أذن الطفل الذى وُلد للتو، لا داعى للزعقة..
وعلى جانبها الأيسر تقف إحدى خالاتها؛ والخالات هن القريبات للبنات يوم عرسهن، ستطلق زغرودة مباشرة قرب انتهاء الزعقة، وكأننا نفعل ما يحدث للمولود من دون ضجيج، قرب أذن العروس فقط، كى تحفظ ذاكرتها السمعية أن هذا حدث، أو كما تقول جدتها: «شوية تفريحة».
• • •
عام 2021 بعد انتهاء أيام حرب كهذه لكنها أخف شراسة منها، خرجنا من أيامها ناجين، وفى اليوم الخامس من بعد انتهائها كان المشهد فى مدينة غزة حرارة يونيو، تقترب والناس فى بعض الشوارع يزيلون ركام بيوتهم، وتفتح البلدية الطرق ويمر موكب عرس من أمام هذا كله، وفى الزفة يغنى المغنى: «وامرق ع غزة وبوسلى رملها، أهلها نشامى ورجالها جبارة»، ويختفى الصوت ويتوقف العمال عن إزالة الركام كى يسمحوا للموكب أن يمر!..
منذ طالت أيام هذه الحرب، أسمع جملة مكررة فى حديث الناس فى المواصلات (الكارة، التوكتوك، السيارة، الشاحنة، وشاحنة نقل المواشى، والباص): «تخلص الحرب من هان وبعد يومين، رح تلاقى الأعراس عادت والحفلات مسكرة الشوارع؛ فى إشارة إلى حفلات العرس التى تسبق العرس بيوم أو يومين، وكأن شيئا لم يكن».
• • •
انتصف الأسبوع، رافقت العروس لتختار فستان العرس الأبيض، وكانت قد اشترطت «بدلة»، وهى ما تبقى أصلاً من صورة العرس فى البلد. فى زقاق بين شوارع ضيقة مررنا على حى قُصف بالكامل، رائحة الموت ما زالت تنتشر، وما زالت هناك جثث تحت الركام، وهو ما صار متعارف عليه، بيت مَن تحت ركامه ذاب أو تبخر، وفق ما رصد الدفاع المدنى أخيرا بأن حوالى 1760 جثة فى غزة تبخرت، فلم يجد الناس من أصحابه إلا البيت، الذى صار كشاهد القبر يرقد تحته خمسة، سبعة، عشرة، أو أنقذنا كل من كان وبقى طفلان أو رجل واحد.
تقف العروس الآن فى عرض البدلة فى بيت ضيق جدا، محل فساتين العرس قُصف، واستطاع صاحب المحل أن ينقذ بعض الفساتين من تحت ركامه.
ارتدت العروس فستانها فى عرض (البروفا)، شىء من يوم كان تمضى العروس قبل العرس بيومين، يستقبلها المحل بصوت الأغانى، الصبايا العاملات هناك يظهرن على (سنجة عشرة) وكأنهن الحاضرات للعرس، بعد حين تدير إحداهن مؤشر جهاز الصوت تعلو زغاريد، تصفق الشاهدات المشاهدات (صديقات، بنات الحما، الأخت، الأم) وتدور العروس بفستانها فى غرفة البروفا!!
هذا لم يحدث!! لا وقت لأى شىء فى الحياة هنا، لأننا نعيش فى غزة حالة الفجعة تجاه الفرح، إننا ندخله دائما بقلب جائع ونأكله بنهم، إذ بعد حين قد تعيد الحرب كرتها مرة أخرى.
دارت العروس أمام السيدة فى البيت الضيق جدل، السيدة ذات الزوج المفقود، قمحية البشرة شاحبة جدا، بابتسامة شاحبة أكثر قالت للعروس: مبروك! بصوت خافت خرج مخنوقا أكثر.
• • •
مضينا ننتظر اليومين المتبقيين لموعد العرس، تجهزنا فى البيت لأن نشدو، صوت فرح من بعيد. فالعروس مضى على خطبتها ما يقارب السنتين منذ يناير 2023. قررت وعريسها العرس فى منتصف أكتوبر من العام نفسه، لكن الحرب استعرت، أجّلا العرس، حتى تنهى الحرب مهمتها بالقتل والحزن.
الحرب لم تنتهِ وبيت الزواج صار جاهزا، وقد يخسرانه فى أية لحظة، مثلما حدث مع كل الذين سبقوهما.
والعرس ما زال ينتظر.. بالنهاية سيمسك العريس بيد العروس نحو بيت العرس، الفارق أنه لن يحدث عرس!
بلا زفة، بلا ضجة، بلا ليالى عرس ثلاث، واحدة لأم العروس وأخريان لأم العريس، بلا حمام عريس، بلا بروفات فساتين عرس، بلا ليالى السمر قبل العرس، بلا صندوق عروس هدية أهل العريس للعروس ليلة حنتها.
تنازل العرس عن كل مظاهره، واكتفى بمشهد عروس تقف فى منتصف البيت بفستان أبيض على جانبها الأيمن ستقف (النازحة) وعلى جانبها الأيسر خالتها، ومن دون ضجيج، واحدة ستردد المهاهاة، والأخرى ستزغرد، لكن بصوت قرب أذنها فقط، لا داعى لأن يُسمع الصوت خارج الباب!
ارتدت العروس فستانا أبيض بشعر مسرح، وبعض المكياج وجلست على كرسى فى بيت الزوجية، الذى دخلته كنازحة، وأمام الحاضرين من أهل العريس جلس العريس بجوارها، وصار العرس ع السكت.!
يقال وفق بعض الإحصائيات إن ثلاثة آلاف زواج حدث خلال شهر فى غزة، لكل زواج حكايته وحالته الاضطرارية.
وبعيدا عمن يرى فى ذلك واقعا رومانسيا خالصا بأن الحب هو الدافع، أخبرك بكل تجرد، أنه لا وقت ولا رفاه لطقوس الحب فى الحرب، فكل ما يحدث هو فعل الاضطرار الذى أوجد غزة فى حالة اسمها مفجوعون نحو الحياة.
فداء زياد
موقع درج
النص الأصلى:
https://rb.gy/u9igf1