فوضى الدواء - خالد الخميسي - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 9:06 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فوضى الدواء

نشر فى : الأحد 7 مارس 2010 - 11:05 ص | آخر تحديث : الأحد 7 مارس 2010 - 11:05 ص

 الفوضى هى القانون والدستور، هى ميثاق العصر الذى لا يهدى إلى طريق ممهد كما تمنى يوما صلاح جاهين عندما تحدث عن مصابيح كل باب من أبواب الميثاق، فالفوضى حطمت كل المصابيح كما الفتوات فى أفراح زمن نجيب محفوظ ولم يبق أمامنا إلا حالة ظلامية لا تمكننا أن نحيا إلا داخل فوضى مطلقة.

هذا ما شعرت به مجددا عندما تحدثت مع د.مصطفى إبراهيم أحد رواد صناعة الدواء والذى تم اختياره مؤخرا ضمن عشرة آخرين من رواد صناعة الدواء فى مصر من لجنة مختصة انبثقت من الشركة القابضة للأدوية بمناسبة مرور 75 عاما على إنشاء أول مصنع مصرى للدواء عام 1934 على يد رجل الصناعة «محمد حجازى»، وذلك لمنحهم الأوسمة التى يستحقونها ولمنحهم التقدير لعطاء العمر كله. كان من المفترض تكريمهم من قبل الدولة فى حفل يحضره السيد رئيس الوزراء يوم 19/12/2009، إلا أن التكريم قد تم تأجيله دون تحديد تاريخ جديد ينتظره هؤلاء الرواد.

التأجيل يبدو لى منطقيا تماما، فالدواء سلعة إستراتيجية مهمة مثلها مثل القمح والماء، وهؤلاء أفنوا حياتهم لخدمة هذه الصناعة، فكيف تجد الدولة وقتا لهم؟ فى حين أنهم منشغلون بكل ما هو تافه لا قيمة له. منشغلون جميعهم بالفرقعات الإعلامية البراقة وبالتصوير بجانب حسن شحاتة. كل هذا منطقى. ولكن ما بدا لى خطير فى حديث الدكتور مصطفى هى حالة الفوضى.

نبدأ بعدد الصيدليات فى مصر: صرح الدكتور أشرف بيومى بوزارة الصحة بأن عدد الصيدليات وصل إلى 52 ألف صيدلية، فى حين أن أحد المسئولين بنقابة الصيادلة أكد أن العدد يصل إلى 45 ألف صيدلية وفى تصريح آخر 42 ألفا. كالعادة هناك إشكالية كبيرة فى مصر خاصة بالإحصائيات. لو أخذنا بالعدد المتوسط وهو 45 ألفا، فهناك حوالى صيدلية لكل 1500 مواطن. فى حين أن المتوسط العالمى هو صيدلية لكل أربعة آلاف مواطن. بما يعنى أن عدد الصيدليات فى مصر أكثر من المفترض أن يكون بأكثر من الضعف.

فى فرنسا على سبيل المثال حيث إننا نتشابه فى التعداد السكانى هناك 23 ألف صيدلية، بمتوسط صيدلية لكل 2700 مواطن. ويقدرون فى فرنسا أن عدد الصيدليات أكثر من اللازم رغم أن عدد الصيدليات هناك حوالى نصف عددها فى مصر. يبدو من هذه الأرقام أن هناك مشكلة. لكن هذه المشكلة تبدو فى الأفق أنها سوف تتفاقم كثيرا. فنتيجة للفوضى المطلقة التى نعيشها، لم يتم دراسة العلاقة بين عدد خريجى كل تخصص وبين الاحتياجات الفعلية لهذا التخصص فى سوق العمل.

فبيزنس التعليم قائما بذاته وليس له فى مصر بالتأكيد أى علاقة بسوق العمل. (يتحرقوا الطلبة). نحن الآن نقوم بتخريج حوالى عشرة آلاف صيدلى كل عام، أى أن هناك اليوم قرابة الخمسين ألف صيدلى محتمل وهم الطلبة الذين يدرسون اليوم فى مدرجات الجامعة، ويقال إن أربعين ألفا من خريجى الأربع سنوات السابقة هم الآن فى رحلة البحث عن مرفأ. هؤلاء جميعهم يبحثون عن فرصة إنشاء أو العمل فى صيدليات جديدة.

أما العمل فى مجال الصيدلة كعلم، فهو أمر يبدو هزليا تماما وسط قبول الجميع بحالة استسلامنا المطلق لهزيمتنا الحضارية. يبدو أن الصيادلة مثلهم مثل غيرهم نسوا تماما دورهم العلمى فى تطوير علوم الدواء والصيدلة، نسوا تماما علم التركيبات الدوائية، نسوا تماما إرث ابن حيان، فدورنا جميعنا هو أن نستورد من الخارج أو نقلد الخارج فى الداخل. ماذا سوف يفعل هؤلاء الخريجون؟ وماذا سوف يفعل من سوف يتخرج بعدهم؟ علامة استفهام كبيرة.

بلغ حجم سوق الدواء فى مصر عام 2009 حوالى 12 مليار جنيه وهو الأكبر فى المنطقة العربية، هنا يتداخل البيزنس والعلم والخدمة العامة فى ضفيرة معقدة تحتاج لفك حبائلها نظاما والتزاما واضحا بالقوانين واللوائح. وهذا بالطبع ضد الفوضى. فقانون الصيدلة رقم 127 لعام 1955على سبيل المثال قد حدد أن لكل صيدلى الحق فى تملك صيدليتين بحد أقصى يدير إحداها ويتعاون مع صيدلى آخر فى إدارة الأخرى ورغم هذا القانون فنحن نرى عشرات الصيدليات تحمل اسما واحدا ومملوكة لشركة واحدة. كيف يتم هذا؟ لا أعرف والأرجح أن الإجابة لا تهم أحدا، فالكعكة كبيرة وبالمليارات ويمكن دفع المطلوب دائما لتأمين حالة الفساد والفوضى.

نظام الإنتاج الدوائى ونظم الاستيراد كانت لا تسمح بأكثر من أربعة أسماء تجارية لكل دواء. اليوم وفى إطار الفوضى يصل الدواء الواحد أى بنفس المادة الفعالة لأكثر من عشرين علامة تجارية مختلفة حتى وصل عدد الأدوية المتداولة فى مصر إلى أكثر من سبعة آلاف دواء. فتح الباب على مصراعيه للوحش الرأسمالى فى مجال الدواء فى مصر أدى إلى اشتداد المنافسة بين الصيدليات بعد أن تحول الكثير منها إلى بوتيكات وتحول الأمر من تقديم خدمة طبية إلى صراع بيزنس بمخالب مرعبة، كما أدى إلى ظاهرة مخيفة وهى ظاهرة سوق المحروق وهو ما يطلق عليه «بحرق» الأدوية كنتيجة مباشرة لطرح شركات الأدوية لكميات من الدواء أكبر من احتياجات السوق.

هذا الخلل أدى بدوره إلى خلل آخر بمنطق الأوانى المستطرقة وهو انتشار ظاهرة طرح أدوية مسروقة من التأمين الصحى فى سوق الدواء، حتى إن وزارة الصحة المصرية أعلنت على لسان الدكتور عبد الرحمن شاهين أن نسبة الدواء المغشوش فى مصر بلغت أكثر من مليار جنيه..كيف يتم تصريف كل هذه البلاوى؟ ظاهرة جديدة على السوق المصرية: فتح أبواب الصيدليات 24 ساعة فى اليوم. فالليل ستار، والرقابة ليلا غير موجودة.

فى العالم أجمع وفى مصر التى نعرفها، توجد صيدلية واحدة فى كل حى للخدمة الليلية ويتم دعمها من الدولة فى مقابل هذه الخدمة فمن سوف يأتى فى الثالثة صباحا للبحث عن دواء؟. أما مع الفوضى فالجميع يتسابق للعمل فجرا، فالمدمنون وأصحاب السوابق هم زبائن الليل البهيم، والسبب المعلن المنافسة الشرسة بين الصيدليات.

هدر للأموال. هدر للإمكانيات. انعدام كلاسيكى للتخطيط. فوضى عارمة. ونرى على الجانب الآخر صيادلة يقفون وقفة احتجاجية على قرار وزارة الصحة بتعديل مساحة الصيدليات من 25 مترا إلى 40 مترا. هزل مطلق فى شكل الجد. ولكنه جد بمخالب رأسمالية الدول المتخلفة. ما العمل؟

خالد الخميسي  كاتب مصري