(ذكريات شباب) - أحمد مجاهد - بوابة الشروق
الجمعة 24 مايو 2024 5:27 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

(ذكريات شباب)

نشر فى : الإثنين 7 ديسمبر 2009 - 10:07 ص | آخر تحديث : الإثنين 7 ديسمبر 2009 - 10:07 ص

 نشر الناقد الأدبى الكبير المرحوم الدكتور عبدالقادر القط ديوانا وحيدا صدرت طبعته الأولى عام 1958، وقد كتبت قصائده بين عامى 1941و1943، لكن الشاعر قد سافر إلى الخارج فى بعثة لدراسة النقد الأدبى لمدة خمس سنوات قبل نشرها فى ديوان، ثم ظل بعد أن عاد مترددا فى نشر الديوان لمدة عشر سنوات أخرى، بعد أن غلب وعيه النقدى موهبته الشعرية الواعدة وأجهز عليها تماما.

والديوان يضم اثنتين وعشرين قصيدة من الشعر الرومانسى المتميز الذى كان يمثل تيارا شعريا رائجا فى ذلك الوقت، أما من ناحية الوزن والقافية فقد ضم الديوان أربع قصائد عمودية موحدة القافية، بينما جاءت باقى القصائد فى صورة مقطوعات ومربعات متنوعة القوافى.

وإذا نظرنا إلى القصيدة الأولى فى الديوان وهى قصيدة «قلق» على سبيل المثال، فسنجد فى مربعاتها نفسا شعريا متميزا ربما يكون قد أوحى وأثر فى شعراء كبار بعده برعوا فى كتابة الرباعيات، حيث يقول مثلا:

ليس مـجــدا أو غــرامـــا مــا أريـــد
لــيت شعرى.. أى شىء أفـتـقــد؟
أى شىء! كل شىء فى الوجود
آه لــو جُـــــمِّع يــومـــا فــاتحـــــــد!

وهو قد يذكرنا برباعية صلاح جاهين التى تقول:

جالك أوان ووقفت موقف وجود
يا تجــود بده يا قلبى يا بده تجود
ما حــد يقدر يبقى على كل شىء
مع إن عـجــبى كل شىء موجود

ويقول القط فى موضع آخر من القصيدة نفسها:

أى شىء فى حياتى قـد فقـدته؟
أى مـعـنـى مـن زمانى أبتــغـــيه
كـلما خُـــيِّــل لى أنــى وجــــدته
قـــــذف الـتنــور بالـنيــــران فـيــــه

وقد يذكرنا هذا برباعية جاهين التى تقول:

أوقـات أفــوق ويـحـــل عـنـى غـبايا
واشــعــر كأنى فـهـمـت كل الخبايا
وافتح شــفايفى عشــان أقول الدرر
ما قولشى غير حبة غزل فى الصبايا

أما قول القط فى قصيدة «عَرَّافة» لفتاته الجميلة التى ذهبت لتقرأ طالعها فى الفنجان خوفا من المستقبل:

يا فتنتى لا ترهبى الغيب الخبىء ولا دجــاه
هـو صــنع أيـدينــا نكـــاد إذا أردنــا أن نــراه
غــرسٌ مــن الأفراح والأتراح والســلوى ثراه
نُلقــى بـه فى يومـنا ونذوق من غـدنا جــــناه
تهب الحياة لنا غدا من مثل ما نهب الحياه!

فهو من وجهة نظرى يضارع فنيا قول الشاعر الرومانسى التونسى الكبير أبوالقاسم الشابى:

إذا الشعب يوما أراد الحياة
فلابد أن يستجيب القدر
ولابـد للـيـــل أن ينــجـــلـى
ولابد للقـــيد أن ينكـســر

وإن كان السياق الثورى الثائر لدى الشابى فى هذا النص، يختلف عن السياق العاطفى الهادئ لدى القط فى ذلك النص.

ونحن لا نعدم أن نجد لدى القط ثورة تبدأ بنفسه وبمذهبه الفنى أحيانا، حيث يقول فى قصيدة «وماذا بعد ؟!»:

شـــباب تائــه حـــــــائر يدارى جَدَّه العاثر
ويهتف: هكذا الشاعر فليت الفنَّ يهجرنا
وليت الشعر يجفونا
كفى يا قلب أوهاما تغول الــيــومَ والــعــامــا
أنقضــى العمر نُوَّاما بلا عــــمل يمــجـــدنــــا
ولا ذكر يواسينا
كفى يا قلب إجفالا فهذا العجـــز قــد طــــالا
ولســـنا بعــد أطــفالا وما تجدى رؤى الحالم
لذى ست وعشرينا

هذه لمحة عجلى عن موهبة شعرية متميزة أجهز عليها الوعى النقدى المتخصص كما يتضح من الديوان نفسه الذى تردد شاعره فى نشره أكثر من خمسة عشر عاما، ثم صَدَّره بمقدمة نقدية طويلة تبلغ أكثر من ثلاثين صفحة، تعد من وجهة نظرى واحدة من أهم المقدمات النقدية فى الشعر العربى المعاصر، وسوف نعود إليها فى مقال آخر .

وقد اعترف الشاعر ضمن هذه المقدمة بأنه كان يمارس وعيا نقديا على شعره حتى فى لحظات الإبداع، حيث قال: وأذكر أنى حين قلت فى قصيدة «رؤيا»:

قــد بـكــينـا وأمِنَّــا أن نـــــرىو الأسى فى وحشة الظلماء يحلو
دمعة فى اللـيل مــا أروعـــهــا تتــلوى مـثلــمــا يـنـســــاب صِــــلُّ
مثل لذع النار قرت فى فميولهـا فى وجهى المحـــرور غـلُّ

طاف بخاطرى ما يذخر به الشعر التقليدى من إغراق فى الحديث عن الدموع والبكاء، فأشفقت أن يؤخذ قولى على أنه مجرد اتباع لتلك السنة المألوفة، وأحسست بضرورة الاعتذار عن هذا الانفعال العنيف فأتبعت الأبيات السابقة بهذين البيتين:

لا تخلها بهـرجــا من شـــــاعر يملأ القول مــن الزيــف ويغـــلو
فلـقـد تعــلم يا طـــيفى أنــــىما ذكرت الدمع فى شعرى قبلُ

وهكذا كان الوعى النقدى يكبح جماح التوهج الانفعالى العاطفى فى قصائد الدكتور القط حتى فى لحظات الإبداع، كما أن عنوان الديوان نفسه «ذكريات الشباب» يشى فى طياته باعتذار نقدى عن تجربة شعرية رومانسية على الرغم من أنها كانت تمثل صوتا متميزا. وقد سئل الدكتور القط قبيل وفاته فى برنامج إذاعى عما كان يفعل لو فرض أن حياته الأدبية بدأت من جديد، فقال: «كنت أعطى الشعر اهتماما أكبر!».

التعليقات