فى فضائل الحكومة الإلكترونية! - محمد يوسف - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 8:08 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فى فضائل الحكومة الإلكترونية!

نشر فى : الأحد 8 أبريل 2018 - 9:00 م | آخر تحديث : الأحد 8 أبريل 2018 - 9:00 م

لا يمكن للنمو الاقتصادى أن يستمر ويرتقى دونما وجود قاعدة متطورة من الحكومة الإلكترونية، هذا ما تقول به تجارب دولية عديدة. فأما الدول المتقدمة صاحبة «الفوائض التكنولوجية»، فلقد كان من البديهى أن تستخدم ما أنتجته من تقنيات متطورة فى تنظيم وربط أنشطتها الحكومية بالاعتماد على الأنظمة الرقمية الحديثة، حتى صارت تقدم الخدمات العامة والاجتماعية بطريقة إلكترونية متطورة، وبدأ يختفى ــ إلا فى أضيق الحدود ــ الشكل التقليدى لحكومة الموظفين. وأما الدول النامية صاحبة «الفوائض المالية»، فقد مولت بتلك الفوائض عمليات شراء وتوطين التكنولوجيا اللازمة للتحول نحو «رقمنة» أنشطتها الحكومية، حتى أمست، هى الأخرى، تمتلك المقومات الحديثة للحكومة الإلكترونية، وحققت طفرة ملحوظة فى الخدمات العامة والاجتماعية التى تنتجها.

وبين دول الفائض التكنولوجى ودول الفائض المالى، مازالت العديد من الدول النامية صاحبة «العجز المالى» تعانى من ترهل فى «حكومة الموظفين»، ويستشرى فى دولابها الحكومى مظاهر «البطالة المقنعة»، وتفتقد، على إثر ذلك، للعديد من الفضائل التى تخلقها «حكومة التكنولوجيا».
****

مصريا، وبمناسبة إعلان وزارة التخطيط عن الملامح الرئيسية للخطة الاستثمارية للعام 2018 / 2019، والتى استهدفت فيها زيادة الاستثمارات الحكومية بنسبة 46% عن العام السابق. وبمناسبة الإعلان عن قرب انتقال بعض من الأجهزة الحكومية لمبانى العاصمة الإدارية الجديدة، أجد لزاما على قلمى أن يكتب حول فضائل الحكومة الإلكترونية، مذكرا بذلك صانع القرار الاستثمارى بحتمية التحول التكنولوجى فى الخدمات المختلفة التى تقدمها الحكومة المصرية، وليس فقط تحديث المبانى الحكومية، إذا كان يبتغى تحقيق نموا مستداما.

ولئن كان مصطلح «الحكومة الإلكترونية» يعنى أن تتمكن الأجهزة الحكومية المختلفة من تقديم أغلب خدماتها لعملائها من خلال استخدام الشبكة العنكبوتية (الإنترنت)، فإن ذلك لن يحدث إلا بالربط التكنولوجى بين تلك الأجهزة الحكومية وبعضها البعض من ناحية، وبينها وبين الشركات والأفراد من ناحية أخرى.

على أنه فى ضوء هذا التعريف، قد يتراءى للبعض أن الإنفاق الاستثمارى اللازم للتحول للحكومة الإلكترونية هو محض «ترف استثمارى» لا تقدر عليه الموازنة المصرية بوضعها الراهن، وأن مبدأ «الأولويات التنموية» يجعل مثل هذا الاستثمار فى ذيل قائمة طويلة من الاستثمارات التى يعوزها، بإلحاح شديد، الاقتصاد المصرى حاليا. غير أن دراسة واعية للتجارب الدولية، يمكنها أن تعطينا من الحجج ما يجعل مثل هذا النوع من الاستثمارات يقع على رأس هذه القائمة وليس فى ذيلها.

ولكى أوضح حججى فى أولوية الإنفاق على التحول للحكومة الإلكترونية فى مصر، فإن النقاط التالية تعرض فضائل سبعة يمكن أن تجنيها السياسة الاستثمارية المصرية، إذ ما وضعت على رأس أولوياتها الاستثمار فى التحول للحكومة الإلكترونية:

أولى هذه الفضائل هى دور التكنولوجيا فى تجويد الخدمات العامة والاجتماعية وخدمات البنية الأساسية. فعندما تستخدم التكنولوجيا الحديثة فى تقديم الخدمات الحكومية، ترتقى جودة الخدمات العامة (وخصوصا تلك المرتبطة بجهازى الشرطة والعدالة)، والخدمات الاجتماعية (مثل الخدمات المرتبطة بأنشطة التعليم والصحة)، وخدمات البنية الأساسية (كمرافق الكهرباء والمياه والطرق)، ويحصل عليها المستهلك بصورة مُرضية. ويكفى نظرة سريعة لشكل ونوعية تلك الخدمات فى إحدى الدول التى لديها حكومة إلكترونية (سواء كانت متقدمة أو نامية)، كى نلحظ مدى التطور الذى وصلت له تلك الجودة مقارنة بالوضع الحالى فى مصر.

والفضيلة الثانية تتمثل فى أن تقديم الخدمات الحكومية باستخدام الإنترنت يخفض الوقت والجهد والتكاليف اللازمة للحصول عليها. فعندما تُتاح الخدمات الحكومية على «الهاتف الذكى» مثلا، فسيساعد ذلك فى القضاء التام على ظاهرة «الطوابير» فى الأجهزة الحكومية، ويجنب جهاز المرور الصداع المزمن المصاحب للازدحام المرورى بجوار مراكز تقديم هذه الخدمات، ويقلل، بالتالى، من التكاليف الإجمالية لإنتاج واستهلاك هذه الخدمات.

ويعتبر التصدى لظاهرة «لعنة الجغرافيا» هو الفضيلة الثالثة للتحول للحكومة الإلكترونية. ففى حالة دولة متسعة الرقعة الجغرافية مثل مصر، تعانى الأجهزة الحكومية كثيرا من ارتفاع تكاليف النشر الجغرافى لخدماتها، مع ما يترتب على ذلك من مشكلات اقتصادية واجتماعية ناتجة من تركز أغلب الأجهزة الحكومية فى مناطق جغرافية محدودة، ناهيك عن استئثار العاصمة بأغلب الخدمات الحكومية المتطورة. ولما كان نشر الخدمات الحكومية إلكترونيا لن يحتاج أكثر من اتصال مقدم وطالب الخدمة بالإنترنت، فإن التحول للحكومة الإلكترونية سيصبح إحدى الضمانات المهمة للتوزيع الجغرافى العادل للخدمات الحكومية على مستهلكيها. ولنأخذ مثالا بسيطا على ذلك بخدمة سداد فواتير الكهرباء أو المياه للشركات الحكومية. وبدلا من قيام أحد ساكنى المناطق النائية بالانتقال لمراكز هذه الشركات، والتى غالبا ما تكون بعيدة عن محل سكنه، فيكفيه أن يكون لديه اتصال بشبكة الإنترنت، حتى يستطيع سداد الرسوم المستحقة عليه باستخدام قنوات السداد الإلكترونى، والتى ستتيحها البنوك المتطورة وتقبلها الحكومة الالكترونية.

على أن الفضيلة الرابعة تعتبر حاصل جمع الفضائل الثلاثة المتقدمة، والتى تتمثل فى ضمان الكفاءة فى الإنفاق العام. فعندما تقوم الحكومة بأى نشاط خدمى عام؛ فإنها تستخدم موادها المالية الشحيحة لإنتاج هذه الخدمة وتوزيعها على مستهلكيها. وعندما تتوسع الحكومة فى نفقاتها الحقيقية والتحويلية، فغالبا ما ينظر بعين الريبة لقدرتها على تحقيق معايير كفاءة الإنفاق العام. ولذلك، فمن المنطقى أن نلمس ارتقاء سريعا فى مؤشرات كفاءة الإنفاق العام، عندما تصبح الخدمات الحكومية جيدة من حيث النوع، ومنخفضة من حيث التكلفة، ومتاحة من حيث المكان، وهذا هو عين ما يقدمه التحول التكنولوجى فى الأنشطة الحكومية.

ولما كانت الآثار الخارجية للتحول للحكومة الإلكترونية ستساهم بصورة مباشرة فى تحسين المنُاخ الكلى للاستثمار، فإن الفضيلة الخامسة للتحول التكنولوجى تتبدى فى قدرتها على تحفيز الاستثمار المحلى، نتيجة للقضاء على مظاهر البيروقراطية المُعيقة له، والمساعدة على جذب الاستثمار الأجنبى، نتيجة لترقية رتبة الاقتصاد المصرى فى التقارير والمؤشرات الدولية، والتى تقيس جودة مناخ الاستثمار فيه مقارنة بباقى دول العالم. ولن يقتصر الأمر على تهيئة المناخ الجاذب للاستثمار، بل إن التطوير التكنولوجى للخدمات الحكومية، سيمكن الحكومة من تحصيل مستحقاتها المختلفة من الأنشطة الاستثمارية القائمة بالفعل، وسيقلل من فرص التهرب والتأخر الضريبى على تلك الأنشطة، وفوق ذلك، سيحاصر الأنشطة الاقتصادية غير الرسمية، أو ما يسميه البعض «الاقتصاد غير المنظم».

وتأسيسا على الدور المهم للحكومة الالكترونية فى تهيئة البيئة الاستثمارية أمام أنشطة التكنولوجيا الرقمية، فإن الفضيلة السادسة لهذا التحول يمكن أن تُظهرها ريادة التكنولوجيا الرقمية المصرية. فعندما تقرر الحكومة ترقية خدماتها تكنولوجيا، فسينمو الطلب المحلى على الأنشطة التكنولوجية المتشابكة مع أنشطة الحكومة. ولتلبية الطلب الحكومى المتنامى، سيزيد الطلب على العمالة التكنولوجية الماهرة فى هذا القطاع التنموى، وستزداد ربحية الصناعات الرقمية الوطنية. ما بالنا إذا علمنا أن الاقتصاد المصرى يمتلك حاليا كل المقومات الضرورية لنجاح مثل هذه الصناعة الحديثة؟! أو ليس لديه وفرة فى العمالة التقنية الماهرة والمدربة، والتى تدفع بها كليات الهندسة لسوق العمل سنويا؟! ولذلك، فإن التحول للحكومة الإلكترونية سيعتبر دفعة قوية لقطاع التصنيع الرقمى الوطنى، وخصوصا حينما تُقصر الحكومة طلبها على الشركات الوطنية لتنفيذ عملية التحول.

أما الفضيلة السابعة للتحول للحكومة الإلكترونية، فهى تطوير الدور الرقابى للحكومة وتعزيز قبضة أجهزتها الرقابية على سوق الخدمات العامة والاجتماعية. وأود هنا أن أؤكد على أن أى جهد يعزز ويطور من الدور الرقابى للحكومة لا أنظر إليه على أنه مجرد فضيلة عادية، بل أراه «فضيلة الفضائل». فكم من مظاهر الهدر والقصور التى تسبب فيها النظام الورقى المعمول به فى أغلب الدوائر الحكومية، ولم تتمكن وحدات «المراجعة الداخلية» من السيطرة عليها، بسبب سمات بنيوية فى هذا النظام المترهل. وكم من مظاهر الفساد المالى الذى صاحب تقديم الخدمات فى أروقة الحكومة بصورتها التقليدية، ولم تُحط به الأجهزة الرقابية علما؛ إما لغياب الإمكانات التكنولوجية التى تحتاجها للرقابة، أو لاضطرارها للمراجعة بالعينة، بسبب ضخامة أعباء أنشطة الرقابة. وفى ضوء هذا الوضع الرقابى المتردى، فإن القصور الذى فرض نفسه على وحدات المراجعة الداخلية، وعلى أجهزة الرقابة الخارجية، يمكن تلافيه بالتحول صوب الحكومة الإلكترونية، هذا التحول الذى يضمن فى طياته إطلاع الأجهزة الرقابية على صورة شفافة وواضحة لكل أنشطة الدوائر الحكومية التى تقدم الخدمات العامة والاجتماعية.
****

إلى هذه النقطة من التحليل، قد يثور تساؤل حول الأسباب المنطقية التى حالت ــ ومازالت تحول ــ دون توجيه قدر كاف من الاستثمارات العامة للتحول للحكومة الإلكترونية. وإجابتى عن هذا التساؤل أستخلصها من التوجهات الرئيسية للاستثمارات الحكومية فى السنوات القليلة الماضية.

فالتوجه السائد خلال تلك الفترة كان التوسع فى نفقات تطوير البنية التحتية، وهو توسع لا تخطئه عين المراقب، كما أنه توجه استثمارى محمود تنمويا ولا ريب، وكان لهذا الإنفاق عظيم الأثر فى إنقاذ الاقتصاد المصرى من وهدة الكساد، والحفاظ على قدر معقول من النمو الاقتصادى السنوى. بيد أنه كان من الممكن بنفس القدر من الإنفاق الاستثمارى تحقيق معدلات نمو أكثر قبولا، إذا ما أعيد ترتيب الأولويات الاستثمارية بوضع نفقات التحول للحكومة الإلكترونية فى مكانها الصحيح على رأس قائمة الاستثمارات العامة.

كما تشير نفس التوجهات الاستثمارية إلى وجود نفقات حكومية متفرقة، هنا وهناك، للتحول التكنولوجى. غير أن تلك النفقات مازالت تمثل مبادرات فردية طوعية، ولا تتسم بالتنسيق والتكامل فيما بينها. لذلك، لم يتمخض عنها تحول حقيقى ناحية «الحكومة التكنولوجية».

ولكل ذلك أقول أنه عندما تخصص حصة معتبرة من الاستثمارات العامة للتحول التكنولوجى، وعندما يصبح التحول للحكومة الإلكترونية فرض عين على كل الأجهزة الحكومية دون استثناء، حينها يمكن للاقتصاد المصرى أن يجنى فضائل التحول الرقمى، وأن تحجز الحكومة لنفسها مقعدا فى نادى الحكومات الإلكترونية!

msyosph@gmail.com

محمد يوسف باحث رئيسي في مركز تريندز للبحوث والاستشارات بدولة الإمارات
التعليقات