سَدّ حَنَك - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 9:12 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

سَدّ حَنَك

نشر فى : الجمعة 9 مارس 2018 - 9:25 م | آخر تحديث : الجمعة 9 مارس 2018 - 9:25 م

سَدُّ الحنك أكلة قديمة، أحببت مذاقها منذ تعرفت عليه للمرة الأولى في فترة الطفولة. دقيق وسمن وسكر وحليب، مكونات تُخلَط جميعها بمقادير معروفة لتصبح عجينًا سميكًا. تنضج تدريجيًا وتقلب حتى تتماسك في الآنية الموضوعة على النار، ثم تصنع منها كرات صغيرة أو كتل بيضاوية الشكل، بنية اللون، وقد تجمل إذا تيسرت الحال بحبات السوداني أو المكسرات، وأحيانًا ما يضاف إليها السمسم. كرة واحدة مشبعة، تسد الحنك مهما عظم جوع صاحبه، وتعطي طاقة هائلة. عدة كرات قد تكفي للصمود يومًا كاملًا، دون الحاجة إلى مزيد مِن الطعام.
***

يُقال إن سَدَّ الحَنَكِ قد انتقل مِن مصر إلى دول المغرب العربيّ؛ ليُعرَف باسم الطمينة أو المقنتة. اتفقت الشعوبُ التي اعتمدته في مطبخها، وعدته مِن أصيل تراثها، على كونه واحدةً مِن أفضل الوجبات التي تُكسِب الوزنَ، وتُسمِن النحافَ، وتداوي الجائعين، بل وتُفقِد آكلَها القدرةَ على الحركة الخفيفة؛ إذ هي تملأ المعدةَ في الحين وتُثقِلُها.
***

الصمتُ والسكونُ اللذان يحلّان على مَن تناول سَدَّ الحَنَك، تَرسَّخا، صارا أمرًا لزوميًا، ثم انقلبا بمرور الوقت إلى فكاهة. كلما سكت الصوتُ، وحضر النعاسُ، وغلب الشرود على أحدَهم، تساءل الآخرون مازحين: ”أكلت سدَّ الحَنَك؟“.
***

انقرضت الأكلةُ الشعبيَّةُ، وصارت تراثًا؛ ربما منذ سنوات طويلة، لكن القولَ المأثور لا يزال حاضرًا. يجهلُ صغار السّنِ طريقةَ إعداد سَدِّ الحَنَك، وربما لا يعرفون عنه الكثير، مع ذلك يستخدمون اسمه، ويتندرون فيما بينهم به، أما هؤلاء الذين عاشوا أيامًا مِن شبابِهم يتلقفون كراتِ السمن والدقيق في سعادةٍ غامرة، ويستحلبون سكرَها وثرائَها في أفواههم، فإنهم يدركون تمامًا ما تصنع فور ابتلاع القضمة الأولى؛ شعور غامر بألا مكان لشيء آخر، العجينُ السميك مُلتصِق بجدران الفم، ولا مساحة مَتروكة ولو لجرعة ماء.
***

سمعت السؤالَ المرتبط بالأكلة الدسمة، يتردد في أكثر مِن مَجلِس حضرته مؤخرًا، لكنه لم يكُن مَقرونًا بضحكات ومُناكفات، بل بوجومٍ أصاب الساهمين والسائلين على حدٍّ سواء، ورأيت الردُّ ماثلًا في أخبار الصباح والمساء؛ بين صفحات الجرائد وعلى الشاشات وموجات الإذاعات المختلفة، لا يحتاج استيضاحًا، ولا يتطَلَّب شرحًا وتفسيرًا مُفصَّلًا. مَن عَلَّقَ على الحَنَكِ المَسدود، ومَن ناوش الصامتين البلداء، ومَن لاحظ تحفُّظًا وراقب شفاهً مَزمومة، كان يدرك السببَ ويفهم العِلَّة.
***

خلال أسابيع قليلة ماضية، سُدَّت أحناكٌ كثيرة، وأُغلِقَت أفواهٌ ولُجِّمَت ألسنةٌ، وقُصِفَت أقلامٌ وانكسرت عدسات. اعتُقِلَ صحافيون بتُهم استخدام كاميرا، والتقاط صور في الشوارع والميادين، واحتُجِزَ مونتير أحد الأفلام التوثيقية بتهمةٍ شبيهة، ومثله أُوقِفَ فريقٌ مسرحيٌّ كامل، ونال أعضاؤه قرارًا بالحبس خمسة عشر يومًا على ذمّة التحقيق؛ متُهمين استرجاع التاريخ. حتى المطربة الشهيرة ذات الجمهور العريض، والسقطات الأعرض والأمضى سذاجة، تلَقَّت حكمًا نافذًا؛ رغم أنها لم تأت بما لم يأت به أحدٌ مِن قبل، بل كررت كلامًا أشبعتنا به الحكومات المُتعاقِبة في إعلاناتها التلفزيونية على مدار سنوات. أطلقت مَزحةً في غير مَحلِّها ربما؛ ثقيلة الظلِّ والروح؛ ربما، خذلتها ثقافتُها الضئيلةُ في صياغة ما قالت؛ ربما. لكن العقاب الذي تلقته والحكم الذي ابتُلِيَت به يندرج تحت عنوان ”سدِّ الحَنَك“ دون ”ربما“ . ليس حَنَكها وحدها للحقِّ، بل وأحناك آخرين، قد يهفو أحدهم يومًا؛ فيهزل أو يشارك فيما لا ترضى عنه السُلطة، وما لا يُقره النظام.
***

مِن جديد، تُنشِد الجوقة لحنًا تصاعديًا يصمُّ السامعين: لا يتحدث أحدكُم.. لا ينطق ولو أثناء النوم، لا يَخرج مِن فِيه رجلٍ أو امرأةٍ صوتٌ. لا يهمهم كائنٌ مَن كان، لا يهمس ولا يحرك شفتيه ولو في الهواء.
***

لا يُعَد سَدُّ الحَنَكِ وجبة مُتوازنة، أو أكلةً مُتكامِلة رغم حلاوة الطعم وجاذبيته؛ فهو يفتقر إلى عناصر غذائية رئيسة، لا تصِحّ دونها الأجسام، وقد تُفاقم كثرةُ تناوله بعضَ الأمراض المُزمنة، بل وتُرسِّب أخرى مزعجة، ومثله تمامًا سَدّ الحَنَك السياسيّ؛ قد يكون له بريقٌ ومَذاقٌ مُستساغ عند فريق مِن الناس؛ لكنه لا يُعد صِحيًا ولا يمكن الاعتماد عليه لفترات مُمتدة .. سَدِّ الأحناك لا يقيم الأود، ولا يأتي بالخير الوفير؛ فالعلل التي تنشأ عنه قادرة على إصابة الجميع؛ حكامًا ومحكومين.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات