ما أدراكم ما الستينيات؟ تجربة مزيانى مسعود - عبد الله السناوي - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 2:42 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ما أدراكم ما الستينيات؟ تجربة مزيانى مسعود

نشر فى : الإثنين 9 يوليه 2012 - 8:35 ص | آخر تحديث : الإثنين 9 يوليه 2012 - 8:35 ص

على مقهى فى شارع جانبى متفرع من الموسكى جلسا معا لدقائق ثم انصرف كل منهما فى طريق. الأول، «مزيانى مسعود» قادما للقاهرة للمرة الأولى فى حياته عنده قضية تبحث عن نصير والثانى، «محمد بوخروبة» يعيش فى العاصمة المصرية طالبا فى جامعة الأزهر لا يعهد عنه الاهتمام بالسياسة وتجمعاتها.

 

الأول، طوله فارع وشخصيته آسره ولكنه «متحفظ فى حديثه منضبط فى إيماءاته» على ما يصفه «أحمد سعيد» مؤسس «صوت العرب» الذى التقاه فى صباح هذا اليوم البعيد من عام (١٩٥٤).. والثانى، متكتم ووجهه لا يكاد يفصح عما يجيش داخله.

 

الأول، اسمه حركى وعرفه العالم بعد ذلك باسمه الحقيقى «أحمد بن بيللا».. والثانى، اسمه حقيقى وعرفه العالم بعد ذلك باسمه الحركى «هوارى بو مدين».

 

الاثنان تعاقبا على رئاسة جزائر ما بعد الاستقلال.. الأول، الاسم الأبرز فى حرب التحرير التى توصف بأنها حرب المليون ونصف المليون شهيد.. والثانى، دخل على رأس قوات جيش التحرير الوطنى العاصمة الجزائر فى مثل هذه الأيام من يوليو (١٩٦٢) قبل خمسين سنة.

 

حسم الصراع على السلطة لصالح صديقه القديم قبل أن ينقلب عليه فى (١٩) يونيو (١٩٦٥) ويودعه سجنا طويلا.

 

على فراش مرضه العضال، وهو يواجه الموت، كان يذكر اسمه بين غيبوبة وأخرى: «سى أحمد».. كأن وصيته عند النزع الأخير فى عام (١٩٧٨) الإفراج عن قائد الثورة الجزائرية ورمزها الكبير على ما تتواتر الروايات. «بن بيللا» تأثرا بتلك الروايات لم يتطرق مرة واحدة على مدى أكثر من ثلاثة عقود إلى خلافه مع «بو مدين» وقصة الانقلاب عليه. عزف عن الكلام تماما حتى وافته المنية قبل شهور قليلة تاركا القصة كلها للتاريخ.

 

فى أيام السجن الطويل بأحد معسكرات الجيش فكرت والدته أن تزوجه، أخذت تعرض عليه صورا، كان من بينها صورة استوقفته لصحفية يسارية عارضته بقسوة على صفحات مجلة «الثورة الأفريقية» التى تصدر بالفرنسية.

 

قال: «لن توافق، إنها تكرهنى يا أمى».. ردت الأم بثقة: «إنها مستعدة أن تأتى لتعيش معك هنا بعد أن سمحت السلطات بزواجك». رفيقة عمره «زهرة» عارضته رئيسا وقررت بمحض إرادتها الحرة أن تعيش معه سجينا.

 

شاءت أقداره أن يحيا دائما فى قلب الخطر، كان هذا اختياره، واختيار جيل جديد من القادة الجزائريين، لم تقنعهم سياسات الأحزاب التقليدية وألعابها، قرروا أن يخرجوا من اللعبة بأسرها التى كادت تضيع هوية الجزائر العربية والأمل فى استقلالها، انشقوا عن «حزب الشعب» الذى يتزعمه «مصالى الحاج» ولجنته المركزية التى تعارضه.

 

إنه البحث عن طريق جديد بعد أن تاهت الخطى. إنهم مجموعة شبان يمثلون قيادة التنظيم العسكرى السرى لـ«حزب الشعب»، كان مستوى التسليح فى أغلبه بدائيا بنادق صيد إيطالية. عندما وصل «مزيانى مسعود» للقاهرة فى ذلك اليوم البعيد كانت مهمته توفير السلاح والمال يصحبه رهان على ثورة يوليو وزعيمها الشاب «جمال عبدالناصر». اكتسب سريعا ثقة القاهرة، كانت عنده خططه ولديه مطالبه. فى الخطط تصميم لبناء جيش التحرير الجزائرى، الجزائر مقسمة لستة قطاعات، كل قطاع مقسم إلى مناطق عمل، كل منطقة مكونة من أربعة إلى ستة أقسام. مجموع قادة القطاعات ستة يمثلون القيادة العليا لجيش التحرير الجزائرى. وضعت أمام القاهرة خرائط السلاح المتوافر ومستويات التدريب الأولية وطلبات محددة بسلاح يطلبه المجاهدون لإطلاق حرب التحرير.

 

عندما سأل «جمال عبدالناصر» رجله القوى فى المنطقة العربية الذى تابع هذا الملف بتفاصيله «فتحى الديب»: «إلى أى حد تثق فى هذا الشاب؟».. أجابه على الفور: «أثق فيه ثقة تامة، فهو من نوعية ثورية فى عالمنا العربى لم أقابل مثلها من قبل».. كان التفكير الاستراتيجى المصرى فى ذلك الوقت المبكر من ثورة يوليو يعمل على «فتح الجبهة الجزائرية فى موقع القلب من الشمال الأفريقى لتوجيه ضربة قاضية للاستعمار الفرنسى الذى سيجد قواته مطالبة بمواجهة واسعة على ساحة الشمال الأفريقى كله يرغمه أن يخفف ثقل قواته على الجناحين الآخرين بتونس ومراكش».

 

تحددت الخطوط الأولى للثورة الجزائرية، وهى بمقياس الدم والشهداء الثورة الأعظم فى التاريخ الإنسانى الحديث كله.

 

أكد «مزيانى» أن الرصاصة الأولى سوف تطلق فى الساعة الواحدة من صباح (٣٠) أكتوبر (١٩٥٤). لأسباب ميدانية تأجلت العملية الأولى التى شملت أنحاء واسعة من الجزائر إلى الأول من نوفمبر. عندما علم «عبدالناصر» أن دوى الانفجارات أرعب قوات الاحتلال الفرنسى تأكد أن الجزائر قد استعادت استقلالها وأكدت هويتها العربية وأن الباقى تفاصيل.

 

كان التفكير الاستراتيجى المصرى يربط ما بين تطلعات المصريين للاستقلال الوطنى فى عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية وتطلعات العرب للهدف ذاته. إنه وحدة المصير العربى، وهذه الفكرة بالذات هى أساس الدور الإقليمى المصرى، فالدور لا يكتسب بادعاء القيادة دون دفع تكاليفها.

 

فى معركة الجزائر تأكد الدور المصرى فى عالمه العربى بلا مَن أو ادعاء. القاهرة تابعت أدوارها من الرصاصة الأولى فى نوفمبر (١٩٥٤) حتى استقلت الجزائر فى يوليو (١٩٦٢). كانت حاضرة فى قلب الخطط السياسية والعسكرية وفى شحنات السلاح التى هربت إلى جبال الجزائر عبر البحار أو الحدود الليبية. «هوارى بو مدين» نفسه جرى تهريبه إلى داخل الجزائر على متن يخت مصرى عليه شحنات سلاح.

 

قوائم السلاح تفاصيلها مودعة فى رئاسة الجمهورية وفى متون الكتب التى أرخت لتلك الحقبة المجيدة فى تاريخنا الحديث وأهمها شهادة «فتحى الديب» نفسه.

 

وقد كان اختطاف «بن بيللا» ورفاقه فى سبتمبر (١٩٥٦) نقطة تحول فى مسيرة الزعيم الجزائرى، فقد بات رمز الجزائر الجديدة. فى محنة السجن الفرنسى أتقن اللغة العربية وحفظ القرآن الكريم، كان يضايقه أنه لا يستطيع أن يتحدث بلغته الأم ويتعثر فيها. وكانت تلك مفارقة جديدة فى حياة «بن بيللا» أن يتقن لغته الأم فى سجن الدولة التى تسعى لطمس هوية بلاده العربية.

 

حشدت القاهرة قوتها الناعمة لتعبئة العالم العربى، ومعه العالم الحر، لقضية الجزائر، تبناها المثقفون والفنانون وبرز جيل جديد كرس مواهبه لهذه القضية بالذات، صنع «يوسف شاهين» فيلم «جميلة بو حريد» مجسدا بطولة المرأة الجزائرية الجديدة، وانتشرت على نطاق واسع ترجمة كتاب «فرانس فانون» عن سوسيولوجيا الثورة الجزائرية وكيف غيرت القيم الاجتماعية السائدة، تحول «صندوق أحمد سعيد» إلى أيقونة الثورة، صوته واصل إلى كل بيوت الصفيح ببيت فى نشيد يتكرر عشرات المرات فى اليوم الواحد: «شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب»، لحن المطرب الراحل «محمد فوزى» النشيد الوطنى الجزائرى، وتضافرت خبرات وتخصصات متكاملة فى دراسة المشهد الجزائرى. أدبه وتراثه ومكونات الشخصية الوطنية، كان كل حرف فى موضعه عن دراسة تسبقه. من سمات هذه الشخصية أنها تنفر من المَن عليها. تستشعر فى خطاب «جمال عبدالناصر» المقتضب فور وصوله إلى الجزائر المستقلة يوم (٤) مايو (١٩٦٣) مدى إدراك طبيعة المسارح السياسية التى تتحرك فوقها التيارات والقوى، لم يشر إلى الدور المصرى بحرف واحد، لا قال إننا أمددنا الجزائر بالسلاح ولا ناصرناها بالمال، ولا أن فرنسا شاركت فى حرب السويس للانتقام من دورنا فى الجزائر، بل قال نصا «جمال عبدالناصر لم يفعل أى شىء لشعب الجزائر» مكتفيا بالإشارة إلى المعنى القومى الكبير لاستقلال الجزائر: «الحمد لله الذى أحيانا لنرى الأمانى وقد تحققت.. كنا نحلم أن نرى الجزائر العربية وقد رأينا اليوم الجزائر العربية». إنه الدور القومى عندما يتجلى فى أرفع صياغاته.

 

فى هذا اليوم الاستثنائى زحف مليون جزائرى من أنحاء البلاد إلى العاصمة لرؤية الزعيم العربى الكبير، افترشوا الطرقات العامة وناموا فوقها بالقرب من الميناء، ملايين أخرى سدت الطرق وكادت أن تحطم السيارة التى استقلها مع الرئيس الجزائرى، فاضطرا أن يمتطيا أعلى عربة مطافئ مضت بين الجموع الحاشدة.

 

المشهد التاريخى يقرأ فى سياق تحدياته ومعاركه وعصره، وقد كان ذلك عصر التحرر الوطنى، ففى توقيت يسبق استقلال الجزائر فى يوليو (١٩٦٢) بعام واحد تحررت القارة الأفريقية من ربقة الاستعمار. كانت القاهرة تتصدر، تقود أوسع عملية تحرير وطنى فى التاريخ، وكان «ناصر» هو «زعيم زعماء أفريقيا» على ما وصفه «نيلسون مانديللا»، وتأثيره نافذ فى آسيا وامريكا اللاتينية. ذات مرة قال الزعيم الهندى «نهرو» لـ«ناصر»: «لماذا تقول يا سيادة الرئيس أن مصر دولة نامية. أنتم دولة كبرى».. اجابه «ناصر»: «مصر دولة كبرى بعالمها العربى».

 

لهذا السبب بالذات جرى ضرب المشروع القومى الناصرى فى (١٩٦٧) باستخدام ثغرات قاتلة داخل بنية النظام. فى ايام الهزيمة نهضت الجزائر للوقوف بجانب مصر. بدا الرئيس «هوارى بو مدين» مستعدا لتسديد كامل فواتير إعادة تسليح القوات المسلحة المصرية من تحت الصفر، وحاربت قوات جزائرية على جبهة قناة السويس فى حرب أكتوبر (١٩٧٣). اختلف الرجلان «مزيانى مسعود» و«محمد بو خروبة» فى قضية السلطة لكنهما ادركا كل بطريقته معنى «وحدة المصير العربى».