فى ذكرى رحيله الثالثة والثلاثين حسن فتحى.. شيخ البنائين - نبيل مرقس - بوابة الشروق
الأربعاء 15 مايو 2024 6:26 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فى ذكرى رحيله الثالثة والثلاثين حسن فتحى.. شيخ البنائين

نشر فى : الجمعة 9 ديسمبر 2022 - 8:50 م | آخر تحديث : الجمعة 9 ديسمبر 2022 - 8:50 م
«وما إن دخلت أول قرية نوبية وهى «غرب أسوان»، حتى أدركت أننى قد وجدت ما قد جئت من أجله.. كان ذلك عالمًا سحريًا جديدًا عليَّ.. قريةٌ بأكملها من بيوتٍ رحبةٍ نظيفة، جميلةٍ ومتجانسة.. كل بيتٍ فيها أجمل من الذى يليه.. ليس هناك فى مصر أيٌّ مما يشبه ذلك.. إنها قريةٌ من بلاد الأحلام البعيدة.. لعلها من قرى مدينةٍ قديمة مخبوءةٍ فى قلب الصحراء الكبرى.. وقد احتفظ بها سرًا من بنوها طيلة القرون الماضية.. حمايةً لها من ملوثات الثقافات الدخيلة.. أو لعلها إحدى قرى «أطلانتس» القارة الأسطورية الغارقة فى أعماق المحيط ؟!».

حسن فتحى، عمارة الفقراء، الهيئة العامة للكتاب ــ مكتبة الأسرة، الطبعة الخامسة 2002
• • •
دلفت إلى «رواق» حسن فتحى «شيخ البنائين» ــ على حد وصف ألفريد فرج فى كتابه «الناس فى الحكايات» ــ فى صيف عام 1976. كنت وقتها طالبًا فى الدراسات العليا بدبلوم معهد التخطيط القومى، أتحسس طريقى للخروج من عالم الهندسة المدنية والدخول متسللًا إلى عالم البحث العلمى الجاد. أحاول الاقتراب الحذر من تلك المساحة «البينية» التى تربط الفكر والممارسة فى مجال الهندسة الإنشائية/ المعمارية بالتاريخ الثقافى للشعوب وعلوم الأنثروبولوجيا والاجتماع والبيئة. ذلك الاقتراب الذى يرى فى طقوس التشييد والبناء فى المجتمعات ما قبل الحديثة «ممارسة ثقافية شعبية» تخضع لمكونات وتقاليد الإرث الحضارى والإبداع الجمعى لتلك المجتمعات. أرشدنى إليه الفنان التشكيلى الكبير والباحث فى تراث الفنون الشعبية ومصمم الأزياء والديكورات لفرق الفنون الشعبية المصرية الأستاذ عبدالغنى أبوالعينين (أحد رواد فن الجرافيك فى الصحافة المصرية؛ حيث عمل فى مدرسة روز اليوسف مع إحسان عبدالقدوس ومع أحمد بهاء الدين فى مدرسة صباح الخير، وأحدث تغييرات مهمة فى مفهوم الإخراج الصحفي) الذى تطوع بسخاء المثقفين الكبار لدعمى ومساندتى وتيسير تواصلى مع حسن بك، وذلك عندما علم أننى أجرى أول بحوثى العلمية الميدانية عن «المسكن النوبى قبل وبعد التهجير». كان الأستاذ عبدالغنى أبوالعينين ــ رحمه الله ــ مولعًا برصد وتوثيق الفن الشعبى النوبى والأزياء النوبية التقليدية والعمارة النوبية الرائعة فى أعماله الرائدة فى فن التصوير الزيتى المستوحى من الفنون الشعبية المصرية (وقد قام مع زوجته الفنانة رعاية النمر بالعمل فى مشروع إنشاء متحف «البيت السيوى» بالتعاون مع أهالى واحة سيوة وذلك بمنحة من الحكومة الكندية، والذى تم افتتاحه فى ديسمبر 1990).
استقبلنى حسن فتحى بحرارة «شيخ الطريقة» الذى يفرح بانضمام «مريدٍ» جديد إلى دائرة «حوارييه». ولم يبخل عليَّ شيخى الجليل بشىءٍ من فيض علمه ومعرفته وأستاذيته وكرمه الإنسانى. تعلمت على يديه الكريمتين أن «المسكن» هو وعاءٌ ثقافى وساحةٌ للتفاعل الاجتماعى، يتشكل فى سياقه وداخل فراغاته وعى الإنسان بذاته وبهويته الثقافية وديناميات علاقاته الاجتماعية، ويطل من داخله على العالم الخارجى بكل صراعاته وتشابكاته. وأن المسكن التقليدى الأصيل هو نموٌ عضوى لا ينفصل عن جذوره الحقيقة فى الطبيعة من حوله، وأيضًا عن أعماق النسيج الاجتماعي/الثقافى الذى أبدعه. وهكذا يصف حسن فتحى قرية «غرب أسوان» النوبية التى جسدت أمامه فجأةً هذا المفهوم:
«... لم يكن هناك ثمة أثرٍ لما نجده عادةً فى القرية المصرية من حشدٍ تعسٍ للبيوت. وإنما كل بيتٍ يتلو الآخر.. سامقًا.. مرتاحًا.. مسقوفًا سقفًا نظيفًا بقبوٍ من الطوب.. وكل منزلٍ مزينٍ على نحوٍ فريد أنيق حول المدخل.. بأشغال المخرمات الطوبية Claustra.. على شكل حلياتٍ بارزة وخطية من الطين.. أدركت أننى إنما أنظر إلى الأثر الحى الباقى من «تراث العمارة المصرية القديمة».. إلى طريقة بناء تراثية كانت بمثابة نمو طبيعى للمسكن من بين ثنايا المشهد الخلوى الطبيعى المحيط.. بمثل ما تكون نخلة الدوم متناغمة ومضفورة فى ثنايا سياقها البيئى الطبيعى.. كان الأمر بمثابة رؤيا معمارية من أزمنة «ما قبل السقوط».. قبل أن تتضافر.. قوى النقود.. والصناعة.. والجشع.. والكِبْرُ الإنسانى.. إلى فصم الطابع المعمارى للمسكن عن جذوره الحقيقية.. فى قلب الطبيعة» (حسن فتحى، عمارة الفقراء، الهيئة العامة للكتاب ــ مكتبة الأسرة، الطبعة الخامسة 2002، ص 28 & 29).
عشت مع شيخى حسن فتحى فى منزله ــ المفتوح للجميع ــ بالقاهرة المملوكية فى درب اللبانة بالقرب من جامع السلطان حسن الشهير. فى منزلٍ سُمِّيَ بـ«بيت الفنانين» حيث سكن فيه عددٌ من أنبغ الفنانين المصريين والأجانب، أشهرهم بيبى مارتان (الفنان التشكيلى الفرنسى الذى عاش فى مصر وأحبها فى لوحاته، فرسم النيل والفلاحين والأسواق الشعبية والأحياء القديمة) وراغب عياد ورمسيس يونان وشادى عبدالسلام وجمال كامل وعبدالغنى أبوالعينين وحسن فتحى. كان وجودى فى حضرة «شيخ البنَّائين» فرصة ذهبية للحوار الفكرى والتلمذة العلمية والحرفية والإعداد الإنسانى الخصيب. كان عائدًا لتوه من مؤتمر الأمم المتحدة الأول للمستوطنات البشرية الذى عُقِدَ فى فانكوفر بكندا فى الفترة من 31 مايو وحتى 11 يونيو 1976. وقد لاقت أفكاره ونظرياته حول «عمارة الفقراء» واقتراحاته العملية عن كيفية حل مشاكل الإسكان الريفى فى العالم الثالث اهتمامًا واسعًا، دفع عددا من الهيئات الدولية وبعض دول الجنوب مثل المكسيك والبرازيل وغانا وباكستان أن تطلب منه إنشاء معهدٍ دولى للتكنولوجيا الوسيطة فى مجال الإسكان الريفى. وكان التوجه أن يتولى هذا المعهد المقترح ــ تحت إشراف ورعاية حسن فتحى – نشر أساليبه المبتكرة فى بناء المسكن الريفى ذى الأسقف المنحنية من قبابٍ وقبواتٍ باستخدام خامة «الطوب النيء» المتاحة فى عديدٍ من بلدان العالم الثالث (تلك الأساليب التى اكتشفها واستخدمها المصريون القدماء، وتوارثها أهالى النوبة القديمة لينقلها عنهم حسن فتحى ويطرحها على كل المهتمين بـ«عمارة الفقراء» فى أرجاء العالم كافة). وذلك كبديلٍ للاندفاع الاستهلاكى غير المدروس فى استخدام أنماط البناء «الحديث» بالخرسانة المسلحة ـ غير الملائمة بيئيًا واقتصاديًا للظروف المناخية والاقتصادية لدول الجنوب ــ تقليدًا للعالم الغربى الذى توحدنا به كنموذجٍ أوحد وطريقٍ مضمون نحو «التقدم».
• • •
وفى سياق الإعداد لذلك المشروع المقترح بخصوص إنشاء معهد دولى للتكنولوجيا الوسيطة فى مجال الإسكان الريفى، حضر إلى مصر فريقٌ من البنائين المحليين من غانا فى يوليو 1976 (أربعة من البنائين وفنى واحد). وقام المهندس حسن فتحى بإعداد برنامج تدريبى مكثف لهم تضمن محاضرات نظرية وزيارات ميدانية داخل القاهرة وخارجها لنماذج من «المسكن البديل» المتوافق جماليًا وبيئيًا، المطرز بالأسقف المنحنية من قبابٍ وقبوات والتى شيدها حسن فتحى من الطين النيء ومن الأحجار الجيرية. وكانت زيارتهم الأخيرة هى زيارة مطولة إلى قرية «القرنة الجديدة» بالبر الغربى لمدينة الأقصر. تلك القرية التى شيدها حسن فتحى بين عامى 1945 و 1948 لإعادة توطين سبعة آلاف فلاح من أهالى القرنة القديمة. وذلك بعد صدور مرسومٍ ملكى بإعادة التوطين من أجل حماية مقابر النبلاء فى جبانة مدينة طيبة المصرية القديمة، حيث تخصص أهالى قرية القرنة ــ التى أقيمت مساكنهم فوق مقابر النبلاء ــ فى حرفة نقب المقابر الفرعونية القديمة واستخراج ما دفن فيها من تحفٍ وتماثيلٍ وكنوزٍ أثرية لا تقدر بمال. وقد مارس البناءون الغانيون بأنفسهم فى موقع القرنة الجديدة وتحت إشراف أحد الحرفيين النوبيين المتخصصين، بناء الأسقف المنحنية من قبابٍ وقبواتٍ باستخدام الطوب النيء. وقد قمت بناءً على تكليفٍ من شيخى الجليل بمصاحبتهم طوال هذا البرنامج التدريبى المكثف الذى أصبح بالنسبة لى بمثابة إعادة تأهيل لأفكارى ومفاهيمى وصياغاتى البحثية على طريقة شيخى الجليل، متأدبًا بعلمه النافع ومُتَأَسِّيًا بخلقه الرفيع وساعيًا باجتهاد للانتقال من مرتبة «المريد» إلى مرتبة «السالك» (بحسب الأدبيات الصوفية). ذلك الإعداد والتأهيل الذى رافقنى طوال عملى الفكرى والميدانى على أطروحتى البحثية للحصول على دبلوم معهد التخطيط القومى، والتى كانت بعنوان «نسق المسكن فى الثقافة النوبية بين التنمية والاحتواء» (نوفمبر 1976).
• • •
ويتبقى لى وأنا أتذكر بامتنانٍ وحب شيخى الجليل حسن فتحى فى ذكرى رحيله الثالثة والثلاثين، أن أشارك قارئى العزيز بوصيته الأخيرة إلى تلاميذه من المعماريين وأيضًا إلى كل المخططين العمرانيين والاقتصاديين والاجتماعيين، ونصيحته المخلصة إلى صانعى القرار فى دول الجنوب من السياسيين والتكنوقراط. وهى قد جاءت فى كتابه الشهير «عمارة الفقراء» تحت عنوان «برنامج قومى لإعادة بناء الريف»:
«... وإذا كان من الواجب إعادة بناء كل قرية فى الريف، فإنه يجب إنشاء برنامج عام للتنمية الشاملة لكل الريف يتضمن إعادة النظر فى مسألة توازن السكان والأرض. والنظر الجاد فى تحديد التوزيع الأمثل للسكان بين الريف والمدينة، وكذا التوزيع الأمثل للسكان القرويين على الريف. وينبغى أن يكون الهدف هو التوصل إلى الاستغلال الكامل لكل موارد الريف، وتوزيعها توزيعًا عادلًا على كل السكان. ذلك أن مصر لا تستطيع تحمل تكلفة أن يترك أى مصدرٍ ممكنٍ للثروة مهملًا دون استخدام. كما يلزم أن يكون التخطيط بحرص وعلى مراحل متتالية فيلزم أن يسبق التدريب البناء، وأن تحسب حسابات المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية الناجمة عن كل تدخلٍ أو مشروعٍ تنموى. وعلى سبيل المثال فإن ميكنة الزراعة تخلق البطالة، إلَّا إذا كان هناك فرص عملٍ جديدة لامتصاص فائض العمالة الزراعية. كما أنه فى خطة تنمية الموارد المائية، يجب أن تعد نظامك المكتمل والكفء للصرف قبل تدبير الموارد المائية الجديدة. وبشكلٍ عام يلزم عند التخطيط لأيٍ من التدخلات والمشروعات التنموية المقترحة أن يتم الحساب الدقيق لكل الآثار الاقتصادية والاجتماعية والبيئية الناجمة عن التدخل أو المشروع التنموى الجديد، مهما كانت وجاهته. أمّا التفاؤل «المبهم» للسياسيين، فإنه لم يعد فيه الإرشاد الكافى للمُخَطِطْ الملتزم والجاد» (حسن فتحى، عمارة الفقراء، ص 190).
نبيل مرقس باحث بمعهد التخطيط القومي (سابقاً)
التعليقات