تشريح الثورات - بلال فضل - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 7:30 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تشريح الثورات

نشر فى : الأحد 10 مارس 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : الإثنين 18 مارس 2013 - 5:22 م

تستطيع أن تصف الثورة بأنها نوع من الحمى. هكذا يقول الكاتب كرين برنتون وهو يحلل الثورات الكبرى في العالم في كتابه المهم (دراسة تحليلية للثورات)، لكنه يطلب منك في البداية أن تتذكر أن فهم كل شيئ ليس معناه بأي حال من الأحوال التسامح مع كل شيئ، فالفهم العلمي لدور البعوضة في الحمى الصفراء لم يؤد بالعلماء إلى التسامح أو اللا مبالاة مع البعوض، بل على العكس من ذلك تماما، لذلك حاول أن تتأمل قبل أن تصدر أحكامك، ليس فقط على مايقوله برنتون وأنقله عنه، بل على كل ماتمر به في حياتك.

 

في العلم لا توجد نتيجة واحدة تستطيع أن تستخلصها من دراستك لكل الثورات، لأن كل ثورة بنت ظروفها، لكن مع ذلك يمكن أن تصل إلى خطوط عريضة كالتي توصل إليها برنتون في تشبيهه للثورة بأنها نوع من الحمى، وقبل أن تسيئ فهمه دعه يشرح نفسه لك: في المجتمع الذي يشهد قيام الثورة تظهر في ظل النظام القديم وخلال جيل أو نحو ذلك (عشر سنوات أو أكثر) علامات الاضطراب القادمة، لا يمكن وصفها بأنها أعراض كاملة، بل يمكن وصفها بأنها نذر ودلالات يعرف منها الطبيب أن الحمى قادمة، ثم يأتي وقت تظهر فيه الأعراض تماما، وعندئذ نستطيع أن نقول أن حمى الثورة قد بدأت، وهذه الحمى تشتد أحيانا وتخف أحيانا ويصحبها في بعض الأحيان هذيان هو حكم أشد الثوار عنفا أو مايطلق عليه حكم الإرهاب، وبعد ذلك تجيئ فترة النقاهة، وهي تتميز عادة بنكسة أو بنكستين، وأخيرا تنتهي الحمى ويستعيد المريض نفسه مرة أخرى، وربما يشعر بالقوة في بعض النواحي نتيجة التجربة، ويكتسب على الأقل مناعة لفترة ما ضد حمى مماثلة، لكن المؤكد أن المجتمع لا يصبح كلية مجتمعا جديدا. لو قمت بتطبيق هذه النتيجة العامة التي استخلصها برنتون من دراسة الثورات الفرنسية والإنجليزية والروسية والأمريكية، وحاولت تأمل مسارها لدينا، ستجد أننا أكثر حظا بأننا لم نصل إلى مرحلة الهذيان بعد، ونتمنى ألا نصل إليها أبدا لو نجحنا في الوصول إلى برلمان توافقي لا يكون فيه غالب يستفز المغلوب ويدفعه خارج العملية السياسية فلا يجد أمامه طريقا غير الشارع لكي يتحرك فيه، يبدو الأمر محتاجا إلى قدرة خارقة من القوى السياسية لإدراك ذلك، لكن من عاش أيام الثورة المجيدة يدرك أن ذلك ليس مستحيلا، لو تأمل الناس التاريخ وتعلموا من دروسه جيدا.

 

ليس أمام القوى السياسية الآن حل آخر، لأنها لو لم تفعل ذلك فسيتجاوزها الواقع وسيدوسها دون رحمة، كلها بلا إستثناء، وسيفرز الواقع شخصيات أخرى قادرة على التعاطي معه، ولن يهتم الناس عندها إذا كانت تلك الشخصيات قادمة من رحم النظام السابق أم لا، لأن الناس في نهاية المطاف ستلجأ إلى من يحقق لها مصالحها ويكفل لها ولعيالها الرزق والأمان. في كتابه عن الحركات الجماهيرية ينتهي إيريك هوفر إلى أن الثورات يفجرها رجال يجيدون الكلام وفي النهاية يروضها ويعيدها إلى مستوى المجتمعات العادية رجال عمليون مثل كرومويل وبونابرت وستالين، يهمهم أن تقوم الحكومة بمهامها، ولذلك يلتف حولهم الناس بغض النظر عن مدى إيمانهم بالحرية من عدمه، يرى هوفر أن رجال الكلام قد يكونون مثقفين لهم مواهب غير عادية في الشكوى من العالم الفظ، لكنهم ليسوا مؤهلين للعمل الشاق الذي تتطلبه الثورة الفعلية، ولذلك لا يستطيعون أن يواجهوا خضم التحديات، فينصرف الناس عنهم إلى رجال الفعل، وهم أناس قد يكونون مثقفين خائبين ليس لديهم عمق وبعد رؤية مثل روبسبير الذي كان فاشلا في كتابة المقالات ولينين الفيلسوف الطامح وهتلر الرجل الذي فشل كفنان، ومع ذلك فهؤلاء يجيدون استغلال الفوضى لمصلحتهم، فينزلون بكل مالديهم من جبروت لكي يخاطبوا النزعات الكامنة في سريرة الجماهير ويستغلون رغبتها في نسف الحاضر المكروه أيا كان الثمن، ولتذهب ساعتها الإصلاحات إلى الجحيم، المهم أن يرى الناس أمامهم رجال دولة قادرين على إدارة مهام الحكومة. وأرجو أن تأخذ كلام هوفر هذا وتحاول أن تطبقه على كل من تراه في الساحة أمامك من مرشحين رئاسيين سواء من كان منهم منتسبا إلى الثورة أو من يحسب على قوى الثورة المضادة، وتقارن بين أداء الفريقين، وتصل بنفسك إلى ماترغب من إستنتاجات لمن يمكن أن يصل إلى حكم البلاد إذا استمر الأداء المتعثر المرتبك للمرشحين الرئاسيين القادمين من رحم الثورة والذين رفضوا كل نصائح المخلصين بالتكتل والتوحد والإتفاق على مرشح ثوري واحد يكون الباقون نوابا ومساعدين له، خاصة أن الإنتخابات الرئاسية القادمة ستكون الأولى في تاريخ مصر، لكنها لن تكون الأخيرة بإذن الله.

 

في تشريحه للثورات الأربع يصل برنتون إلى نتيجة مهمة هي أن الناس في وقت الأزمات يزداد صدور أقوال عنهم تخالف أفعالهم، ولذلك يجب على الثائر أن يدرك أن كثيرا من الأشياء التي يرددها الناس وكثيرا من عاداتهم البشرية واتجاهاتهم لا يمكن تغييرها سريعا على الإطلاق، حتى عندما يحاول المتطرفون الثوريون فعل ذلك بالقانون والإرهاب أوحتى بالنصح، وأن فترة النقاهة تعود بها من جديد دون أن يطرأ عليها تغيير كبير، والسر دائما أن الثورات الأربع وعدت الناس بأشياء كثيرة ووعود غامضة مثل السعادة الكاملة التي تتغلب على كل أنواع العقبات، وهذه الوعود في شكلها المتطرف لم تتحقق في أي مكان، ولعل ذلك يدفعنا إلى أن نستفيد من خطأ غيرنا، فنقدم للناس وعودا واقعية قصيرة المدى يحسب نجاحها للثورة، بدلا من أن نرفع سقف توقعاتهم وننزل بهم على مافيش. على أية حال يختم برنتون تشريحه الرائع للثورات بالتأكيد على أن كل المجتمعات التي شهدت ثورات أيا كانت نتيجتها ثبت بالدليل القاطع أنها مجتمعات قوية، لأن المجتمعات الضعيفة والمنهارة لا تتعرض للثورات، فالثورات على العكس دليل قوة وشباب في المجتمعات، ربما يطمئننا هذا، لكنه لا يجب أن يجعلنا نركن إلى هذه الحقيقة، فنحن بإذن الله قادرون على أن نمضي في طريق ثورتنا بعقل ووعي لنصنع ثورة يقف أمامها برنتون وغيره مشدوهين، وما ذلك على الله بعزيز، ولا هو على شعبنا ببعيد.

 

(للأسف الشديد نشر هذا المقال لأول مرة في 5 سبتمبر 2011)

 

belalfadl@hotmail.com