ويعول أربع سمكات! - بلال فضل - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 11:44 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ويعول أربع سمكات!

نشر فى : الخميس 23 يناير 2014 - 4:35 ص | آخر تحديث : الخميس 23 يناير 2014 - 4:35 ص

كنت مسافرا عندما دخل السمك الملون حياة ابنتى الصغرى، لكن تكنولوجيا الاتصالات أتاحت لى أن أشاركها فرحتها بتدشين أول حوض سمك فى كتاب حياتها. بسبب الصورة المشوشة لم أتمكن من تبين ملامح السمكتين اللتين سكنتا الحوض، لكن فرحة ابنتى كانت جلية بما فيه الكفاية، لكى أحمد الله أنها كانت أسعد حظا من أبيها الذى نشأ فى ظروف تعتبر أن السمك خلقه الله فقط لنأكله متبلا بالثوم والكمون، لا لنحبسه فى أحواض ونتفرج عليه وهو يدور فيها «عمّال على بطاّل».

اليوم الذى سبق عودتى من السفر حمل لابنتى «مفاجعة» جعلت استقبالها لى مشوبا بالحزن، لأن إحدى السمكتين النابضتين بالحياة والحيوية لقيت حتفها فى ظروف غامضة واستقرت هامدة فى قاع الحوض، تشريحى المبدئى كان أن السمكة انفجر دماغها بالتأكيد من فرط الانحطاط الذى ينبعث من برامج التوك شو التى يذيعها التليفزيون المجاور للحوض، لكن ابنتى قضت على تحليلى بسؤال منطقى «وهو التليفزيون مصلحته إيه عشان يقتلها؟، وبعدين اشمعنى قتل دى وساب دي»، قلت لها «مش جايز تكون ما بتسمعش؟»، لكنها قاطعتنى متبرمة «بابا لو سمحت مش عايزين هزار.. لازم نسأل عمو بتاع السمك ليه ده حصل؟».

بائع السمك الملون قال بعد معاينة الجثة أن «الحب قتل السمكة»، فابنتى لم تلتزم بتحذيره ألا يزيد ما تأكله السمكتان كل يوم عن حبتين فقط من أكلهما الخاص، لكى لا يصابا بطفيليات تفضى إلى الوفاة، ولأن ابنتى أحبت السمكتين فقد قررت أن تكون أكثر رأفة بهما من بائعهما، فزادت لهما فى حصة الأكل اليومية، بدا التفسير مقنعا، إلا أنه لم يجب على سؤال ابنتى الأزلى «اشمعنى الطفيليات قتلت دى وسابت دى؟»، وكالعادة لم تقنعها إجابتى بأنها حاولت أن تقتل هذه السمكة أيضا لكنها نجت لأنها متعودة على الرمرمة، زى بابا.

بعد أن أطالت ابنتى النظر إلى السمكة الناجية التى تسبح وحيدة فى ماء الحوض، قالت وقد غلبها الشجن «يا خسارة كان نفسى لما ترجع عشان أعرفك على زين وسعاد بس للأسف زين مات قبل ما تتعرف عليه»، انفجرت فى نوبة ضحك كتمتها يد ابنتى التى استقرت على فمى وهى تقول لى أن بائع السمك حذر من الإفراط فى الضوضاء إلى جوار القفص الذى نقلناه بعيدا عن التليفزيون وبلاويه، قبل أن تنبهنى إلى أن الضحك بصوت عال ليس فيه احترام لحزن سعاد على زين، قلت وأنا أحاول تغيير المود بشكل يلائم جلال الحدث الجلل «هو إنتى ليه حكمتى إن السمكة اللى ماتت كانت راجل واسمه زين مع إن السمكتين ماحدش يقدر يفرقهم عن بعض»، فردت كأنها تنطق بديهية معلومة من الكون بالضرورة «عشان معروفة يا بابا إن الراجل دايما بيموت قبل الست».

ارتمائى من فرط الضحك كاد يطيح بحوض السمك ليريق ماءه فى الأرض، فلا يذهب بسعاد إلى جوار زين، بل يذهب بنا نحن أيضا كضحايا لماس كهربائى لو اندلق ماء الحوض على وصلة الكهرباء التى تنير حوض السمك وتمده بالأكسجين، ابنتى قالت غاضبة «هو إيه اللى يضحك فى اللى أنا قلته يا بابا»، وأنا أخذتها فى حضنى وأنا أقول «ما فيش أنا بس كده اطمنت على سعادتك الزوجية طالما هتفضل الحقيقة دى قدام عينيكى على طول».

للأسف، لم تكن هذه النهاية السعيدة للقصة، فابنتى عادت من المدرسة بفكرة جهنمية لا تحل مشكلة سعاد فقط، بل تطيل عمرها أيضا، فزميلتها التى سبقتها إلى عالم الأسماك، أفتت أن الإتيان بزوج لسعاد لن يحل مشكلتها لأنها ستظل تتذكر المرحوم زين فتتجدد أحزانها عليه، وأن الحل الذى يمكن أن ينسيها حزنها هو أن تأتى لها بثلاث سمكات دفعة واحدة ليملأن عليها دنيا الحوض.

عندما نظرتُ إلى السمكات الثلاثة اللواتى كن نسخة طبق الأصل من سعاد، مع فارق بسيط أن إحداهن فقط فى مثل حجمها على عكس السمكتين الأخريين، سألت ابنتى لماذا لم تأت بسمكات مختلفات اللون لكى يكون هناك تنويع لا يجعلنا نمل ونحن ننظر إلى الأسماك، فنظرت إلىّ باستغراب شديد وقالت «انت ليه يا بابا بتفكر فينا وما بتفكرش فى سعاد؟»، بدا ردها أعقد من قدرتى على الفهم، فعاجلتنى بالشرح «احنا جايبين لها السمك ده عشان يفكرها بزين مش عشان إحنا نبص عليه.. السمكة الكبيرة دى هيبقى جوزها وهنسميه زين برضه والصغير ده ابنها والصغيرة دى بنتها وعايزين نفكر لهم فى اسمين كويسين»، كان المناخ ملائما لطرح كمية مهولة من الأسئلة الهزلية التى تدافعت إلى ذهنى، لكن إصبع ابنتى ارتفع فجأة ملوحا فى الهواء ليعيق تدفق أسئلتى إلى خارج ذهنى، قبل أن تقول بحسم «خد بالك بقى يا بابا.. إحنا مش عايزين اللى حصل لزين يتكرر وعشان كده أنا مش هابقى مسئولة عن السمك لوحدى.. إنت هتبقى مسئول عن السمك وأنا فى المدرسة.. ولو جرى لأى سمكة فيهم حاجة هتبقى مسئوليتك».

لعلك إن كنت أبا، ستعرف أنك يمكن أن تتهرب من أى مسئولية فى الدنيا إلا المسئولية التى يكلفها بها أبناؤك، ولذلك ومنذ تلك اللحظة التى ارتفع فيها ذلك الإصبع ملقيا خطاب التكليف، وأنا أحمل فوق كل همومى هما جديدا، هم أربع سمكات لا بد من بقائهن على قيد الحياة حتى عودة ابنتى من المدرسة، فلا تأكل كل منهن أكثر من حصة التغذية الصباحية، ولا يزعجهن صوتى العالى وأنا أتحدث فى التليفون، ولا ينقطع عنهن الأكسجين إذا قمت بتحريك سلكه لأى سبب، كما حدث مرة عندما قمت بوضع شاحن الموبايل فى وصلة الكهرباء، واكتشفت ذلك ابنتى فانخرطت فى بكاء حاد اتهمتنى فيه أننى أريد قتل السمكات لأهرب من تحمل المسئولية.

ستقول لى «ولماذا لا تقنع ابنتك أنه لا دائم إلا وجه الله وأن السمكات سيرحلن حتما إلى حيث رحل زين»، صدقنى ما أنا مهتم به فقط هو ألا يحدث ذلك خلال نوبة رعايتى لهن، لأن ابنتى التى تعلم أننى أكره الواجبات المنزلية، لن تصدق أبدا أنه لم يكن قتلا مع سبق الإصرار والترصد