سطوة المال على السياسة - عمرو حمزاوي - بوابة الشروق
الثلاثاء 16 أبريل 2024 11:54 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

سطوة المال على السياسة

نشر فى : الجمعة 10 مارس 2017 - 11:20 م | آخر تحديث : الجمعة 10 مارس 2017 - 11:20 م
تربك سطوة المال على السياسة فى المجتمعات الديمقراطية حسابات الليبراليين، وتنزع مصداقية أحد الادعاءات الأساسية للفكرة الليبرالية وهى كون المواطنين أصحاب حظوظ متساوية فى تحديد هوية شاغلى المناصب التنفيذية والتشريعية ومن ثم وجهة ومضمون السياسات العامة المنفذة.

المبالغ الطائلة التى تنفق فى الحملات الانتخابية، ومحدودية اعتماد المرشحين على تبرعات المواطنين الصغيرة مقارنة بتبرعات المصالح الاقتصادية والصناعية والمالية ونخب أصحاب الأعمال، وأدوار جماعات الضغط التى حلت عملا محل الأحزاب السياسية فى صياغة تصورات وبدائل السياسات العامة من النظم الضريبية إلى قوانين الرعاية الصحية وحماية البيئة؛ مثل هذه العوامل وغيرها تقلل عملا الاختيارات المتاحة للمواطنين حين يذهبون إلى مراكز الاقتراع للإدلاء بأصواتهم فى الانتخابات. وعندما تدفع من جهة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتلاحقة التى تتعرض لها المجموعات السكانية الفقيرة والطبقات الوسطى ومن جهة أخرى دينامية النقاش العام فى المجتمعات الديمقراطية بمرشحين من اليسار التقدمى كبرنى ساندرز فى الولايات المتحدة الأمريكية أو من الليبراليين غير التقليديين كالكثير من سياسيى الخضر فى أوروبا وتدفع من خلالهم بتصورات للسياسة العامة أكثر إنسانية وعدلا وحرية، فإن سطوة المال على السياسة تفرض إما استبعادهم من السباقات الكبيرة (كالرئاسة الأمريكية) وإما تبقى عليهم فى مواقع الأحزاب الصغيرة.
***
غير بعيد عن ذات الأمر صعود الشعبوية فى المجتمعات الديمقراطية. يعتمد دونالد ترامب ونظرائه الأوروبيون على مصالح اقتصادية وصناعية ومالية كبرى تجتذبها المقولات العنصرية والشوفينية من نوعية «أمريكا أولا» و«سنعيد هولندا إلى الهولنديين» و«العرب والمسلمون كالطاعون المدمر لفرنسا»، ومن ثم تمول تلك المصالح حملات «الترامبيين» الانتخابية وتقدم لهم دعما سياسيا مؤثرا. إلا أن الشعبوية تعمل على اصطياد المواطنين الفقراء ومحدودى الدخل والمنتمين للطبقات الوسطى بزعم تبنيها سياسات عامة ضد المصالح الكبرى ورفضها للعولمة الاقتصادية واتفاقيات التجارة الحرة التى تنقل فرص العمل من الغرب إلى مناطق أخرى ولا يستفيد منها سوى أغنياء الغرب، وأيضا بادعاء حرص الشعبويين على «تنقية السوق» من الأجانب والمهاجرين غير الشرعيين لكيلا يواجه «أبناء البلد» منافسة تقلل من حظوظهم فى العمل وتهدد مستوياتهم المعيشية.
بمكيافيلية صارخة، يأتى ترامب إلى السلطة التنفيذية فى الولايات المتحدة بحكومة الوزراء فاحشى الثراء وأصحاب الثروات الطائلة من مضاربات فى البورصات العالمية ومن ترأس بنوك عالمية وشركات مضاربات مالية تقدم دخولا خيالية ومن الإفادة من الأزمات المالية كأزمة ٢٠٠٨ التى أحدثها جشع رؤساء تلك البنوك والشركات ومن العولمة الاقتصادية التى تتيح إنتاج الكثير من السلع بأرخص الأسعار فى بلاد الشرق والجنوب الرخيصة (ومن هناك على سبيل المثال يرد الحديد وغيره من مواد البناء التى يستخدمها المقاول دونالد ترامب فى تشييد مبانيه ومنتجعاته فى الولايات المتحدة وحول العالم). يأتى بهم بعد أن دغدغ مشاعر الفقراء ومحدودى الدخل والطبقة الوسطى (البيضاء) بخطاب الانحياز إلى مصالح المظلومين والمهمشين وبسطاء العمال (من البيض فقط) الذين تراجعت دخولهم الفعلية، وبمقولات رفض العولمة وجشع المصالح الاقتصادية والمالية الكبرى، وبوعود الحفاظ على فرص العمل فى القطاع الصناعى بمعاقبة الشركات الأمريكية وغير الأمريكية التى تنقل خطوط إنتاجها من الولايات المتحدة إلى الخارج. يستعصى موضوعيا تفسير صعود ترامب ونظرائه كالسيدة لوبن فى فرنسا وفيلدرز فى هولندا وحركة البديل من أجل ألمانيا دون إدراك كيف يحصل الشعبويون فى آن واحد على التمويل اللازم لحملاتهم الانتخابية ولأحزابهم وحركاتهم السياسية من المصالح الكبرى ويعتاشون على دغدغة المشاعر بزعم رفضهم لسطوة المال على السياسة وانحيازهم للأغلبية التى يكونها البيض من الفقراء ومحدود و الدخل وبسطاء العمال والطبقة الوسطى.
ليس فى مكيافيلية الشعبويين هذه سوى إفادة من الأزمة التى تحدثها للفكرة الليبرالية سطوة المال وتفريغ مبدأ المساواة بين المواطنين من المضمون، وتتشابه بجلاء مع صعود الحركات الفاشية والعنصرية فى الغرب بين الحربين العالميتين وفى سياق الكساد العظيم حيث تحالفت المصالح الاقتصادية والمالية والصناعية الكبرى فى ألمانيا وإيطاليا مع حكومتين إجراميتين قتلتا واضطهدتا وأشعلتا الحروب وأطلقتا آلات عسكرية مجنونة لبناء الإمبراطوريات وكل ذلك أفاد المصالح الكبرى بشدة (لم يزل على سبيل المثال تحالف كبريات البنوك والشركات الصناعية الألمانية مع النازى وتورطهم عبر الدعم المالى وتصنيع العتاد العسكرى ومستلزمات الجيوش فى الجرائم ضد الإنسانية التى ارتكبت بين ١٩٣٣ و١٩٤٥ يلقى بظلاله القاتمة على بنوك كالبنك الألمانى وشركات كسيمنس وبوش ودايملر بنز وهينكل وغيرها). وفى نفس الوقت زعم الفاشيون انحيازهم إلى«أبناء البلد الأصليين» ونفذوا لبضعة سنوات من خلال برامج حكومية لتطوير البنى التحتية والمرافق سياسات تشغيل أخرجت من البطالة قطاعا واسعا من فقراء ومحدودى الدخل وبسطاء العمال (من البيض والمسيحيين فقط)، ثم دفعت بهم بعد أن زيفت وعيهم بعنصرية بائسة ووطنية شوفينية إلى أتون الحروب وهاوية الموت لكى تبنى الإمبراطوريات وتضمن المواد الخام بأسعار زهيدة وتفتح الأسواق العالمية وتحضر العمالة الرخيصة (من بين الحقائق المنسية لهولوكوست النازيين ضد اليهود الأوروبيين كونهم استنزفوا كعمال سخرة قبل الإبادة فى المصانع والأرض الزراعية وأعمال البناء).
اليوم، يعلن الشعبويون تنفيذ سياسات مشابهة من «الاستثمارات التريليونية فى البنى التحتية والمرافق» لدى ترامب إلى التوسع الموعود فى سياسات التشغيل الحكومية «لأبناء البلد» الذى تعد به السيدة لوبن وفيلدرز وحركة البديل من أجل ألمانيا. وفى الفضاء العام تتردد أصداء مقولات العنصرية والوطنية الشوفينية التى توظف لتزييف الوعى واستكمال دغدغة مشاعر الناس بغية الحصول على انتصارات انتخابية.
***
تقضى سطوة المال على ثقة قطاعات شعبية واسعة فى الفكرة الليبرالية والممارسة السياسية المرتبطة بها، وتلغى عملا مصداقية مبدأ المساواة بين المواطنين كناخبين لهم نفس حظوظ التأثير إن فيما خص نتائج الانتخابات أو لجهة تحديد هوية شاغلى المناصب التنفيذية والتشريعية. يحرز ترامب ونظرائه انتصارات انتخابية متتالية بتوظيف مزدوج لسطوة المال يجمع بين الحصول على دعم «أصحاب السطوة» ودمجهم فى أروقة السلطة والحكم وبين إنتاج خطاب سياسى مكيافيلى يزعم زيفا محاربتهم والانحياز إلى المظلومين والمهمشين من الفقراء ومحدودى الدخل والعمال والطبقات الوسطى ويروج لزيفه بمقولات عنصرية وشوفينية تدغدغ المشاعر. فى المقابل، تعجز الأحزاب والحركات الليبرالية التقليدية (كالحزب الديمقراطى فى الولايات المتحدة والأحزاب المسيحية الديمقراطية فى أوروبا) عن الاعتراف بالتداعيات الكارثية لسطوة المال، وتخفق فى تطوير تصورات وبدائل للسياسات العامة تستهدف تغيير الدفة وإنقاذ الممارسة السياسية للفكرة الليبرالية المستندة إلى التعددية وتداول السلطة وحكم القانون من الانهيار باستعادة مصداقية مبدأ المساواة بين المواطنين وتحجيم دور المال وأصحابه فى السياسة.
لأن الليبراليين التقليديين عاجزون ستتواصل هزائمهم الانتخابية، ويستمر انصراف الناس عنهم، وتتصاعد الاتهامات الموجهة إليهم كنخب فاسدة متحالفة مع المصالح الكبرى ولا يعنيها الصالح العام ولا تلتفت إلى أزمات المواطنين، وتتكرر مشاهد انجراف الناخبين نحو الشعبويين. ولأن الليبراليين التقليديين عاجزون لن يأتى من خاناتهم الإنقاذ المرجو للفكرة الليبرالية، بل سيصدر عن خانات اليسار التقدمى (الدينامية الراهنة للحزب الاشتراكى الديمقراطى فى ألمانيا) وخانات الليبراليين غير التقليديين (كالخضر على امتداد أوروبا وكالحراك المقاوم لترامب فى الولايات المتحدة).

 

عمرو حمزاوي أستاذ علوم سياسية، وباحث بجامعة ستانفورد. درس العلوم السياسية والدراسات التنموية في القاهرة، لاهاي، وبرلين، وحصل على درجة الدكتوراة في فلسفة العلوم السياسية من جامعة برلين في ألمانيا. بين عامي 2005 و2009 عمل كباحث أول لسياسات الشرق الأوسط في وقفية كارنيجي للسلام الدولي (واشنطن، الولايات المتحدة الأمريكية)، وشغل بين عامي 2009 و2010 منصب مدير الأبحاث في مركز الشرق الأوسط لوقفية كارنيجي ببيروت، لبنان. انضم إلى قسم السياسة العامة والإدارة في الجامعة الأميركية بالقاهرة في عام 2011 كأستاذ مساعد للسياسة العامة حيث ما زال يعمل إلى اليوم، كما أنه يعمل أيضا كأستاذ مساعد للعلوم السياسية في قسم العلوم السياسية، جامعة القاهرة. يكتب صحفيا وأكاديميا عن قضايا الديمقراطية في مصر والعالم العربي، ومن بينها ثنائيات الحرية-القمع ووضعية الحركات السياسية والمجتمع المدني وسياسات وتوجهات نظم الحكم.
التعليقات