قبل أسابيع قليلة، نجح ائتلاف الحزب المسيحى الديمقراطى والحزب المسيحى الاجتماعى والحزب الاشتراكى الديمقراطى فى الحصول على تأييد الأغلبية (فى التصويت الثانى) فى البرلمان الاتحادى الألمانى (البوندستاج)، وأعلنت من ثم الحكومة الجديدة برئاسة المستشار المسيحى الديمقراطى فريدريش ميرتس ونيابة وزير المالية الاشتراكى الديمقراطى لارس كلينجبايل.
سبق النجاح البرلمانى للائتلاف الكبير، كما تسمى دومًا فى الحكومات المشتركة بين المسيحيين الديمقراطيين، وهم منذ انتهت الحرب العالمية الثانية (١٩٤٥) وتأسست ألمانيا الاتحادية (١٩٤٩) حزب المستشارين البارزين كونراد أديناور ولودفيج إيرهارد ومستشار الوحدة هيلموت كول ومستشارة الاندماج الأوروبى أنجيلا ميركل وبين الاشتراكيين الديمقراطيين، وهم حزب مستشار «سياسة الانفتاح على الشرق» فيلى برانت والمستشارين المهتمين بالتحديث الاقتصادى هيلموت شميت وجيرهارد شرودر، سبق نجاح الائتلاف الكبير فى ٢٠٢٥ توافق الحزبين (ومعهما الشريك البافارى الأصغر للمسيحيين الديمقراطيين، الحزب المسيحى الاجتماعى) على برنامج مفصل للعمل الحكومى داخليًا وخارجيًا.
• •
فيما خص قضايا السياسة الداخلية، تعطى حكومة المستشار ميرتس الأولوية القصوى لإخراج الاقتصاد الألمانى من خليط الركود والانكماش الذى يعانى منه منذ ٢٠٢٣ والذى رتب سقوط الحكومة السابقة (وهى كانت مؤلفة من ائتلاف الحزب الاشتراكى الديمقراطى وحزب الخضر اليسارى والحزب الديمقراطى الحر ممثل الليبرالية الألمانية الذى أخفق فى الحصول على مقاعد فى البوندستاج الحالي) ودفع إلى إجراء انتخابات برلمانية مبكرة، وبالفعل اعتمدت حكومة ميرتس خطة طموحة للإنعاش الاقتصادى تستند إلى استثمارات حكومية فى مجالات البنى التحتية والطاقات المتجددة والتكيف البيئى والتكنولوجيا والدفاع والتعليم تصل إلى ١٠٠ مليار يورو، علما بأن الخطة هذه ليست محل توافق مجتمعى أو سياسى لكونها سترتب رفع معدلات الاستدانة العامة فى ألمانيا.
وفى مواجهة الإجراءات العنيفة التى تطبقها إدارة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب فى مجالات التجارة العالمية بفرضها أو تهديدها بفرض تعريفات جمركية تصاعدية على الأوروبيين، وكذلك على الصين واليابان وشركاء آخرين، استقر ميرتس ورفاقه، دفاعًا عن المصالح الاقتصادية لبلاده المعتمدة أكثر من غيرها فى القارة العجوز على التجارة الحرة وعلى التصدير الذى يعد الماكينة الأهم لعمل الاقتصاد الألمانى، مع حكومات الدول الأعضاء فى الاتحاد الأوروبى على إتباع سياسة غير تصعيدية والتعامل الهادئ مع بيانات وقرارات ترامب المتتالية والدعوة إلى الحوار والتفاوض.
• •
أما أولوية الائتلاف الكبير الثانية فى السياسة الداخلية فتتمثل فى الحد من الهجرة الشرعية والهجرة غير الشرعية ومن أعداد طالبى اللجوء فى ألمانيا. يدرك المسيحيون الديمقراطيون والمسيحيون الاجتماعيون، وهم يصنفون كيمينيين محافظين، أن ارتفاع معدلات الهجرة واللجوء خلال السنوات الممتدة من ٢٠١٥ إلى ٢٠٢٢ أنتجت شروخًا مجتمعية كثيرة ورتبت سياسيًا صعود متراكم لليمين المتطرف مجسدًا فى حزب البديل لألمانيا الذى حصل فى انتخابات ٢٠٢٥ على ما يقرب من ٢١ بالمائة من الأصوات وصار بكتلة برلمانية مكونة من ١٥١ نائبًا لحزب المعارضة الأول (متبوعًا بحزب الخضر بكتلة مكونة من ٨٥ نائبًا وحزب اليسار صاحب الـ٦٤ مقعدًا فى البوندستاج).
على الرغم من تحفظات الاشتراكيين الديمقراطيين المشاركين فى الائتلاف الكبير والمؤيدين تقليديًا لسياسة لا تغلق أبواب الهجرة واللجوء إلى ألمانيا، اعتمدت حكومة ميرتس حزمة من السياسات والقرارات (كتجميد لم الشمل العائلى للمهاجرين والترحيل السريع لطالبى اللجوء الذين ترفض طلباتهم أو يتورطون فى جرائم ومخالفات قانونية والإبعاد الفورى للمهاجرين غير الشرعيين وتشديد الرقابة على الحدود) المراد منها إظهار حزم الحكومة الجديدة فى هذه الملفات والحد من التأييد الشعبى والسياسى ومن ثم الانتخابى لحزب البديل لألمانيا المعتمد على خطاب معادٍ للمهاجرين واللاجئين.
* • •
غير أن الواقع الراهن، مدللًا عليه من واقع استطلاعات الرأى العام وتفضيلات الناخبين التى أجريت بعد انتخابات ٢٠٢٥ وتشكيل الائتلاف الكبير، يظهر أن سياسات وقرارات حكومة ميرتس لم تنجح بعد فى سحب البساط من تحت أقدام اليمينيين المتطرفين. بل على العكس تمامًا، سجل حزب البديل لألمانيا المركز الأول بين الأحزاب السياسية فيما خص رضاء الناخبات والناخبين بنسبة تجاوزت ٢٤ بالمائة، واقتربت كثيرًا من النسبة المشتركة للحزبين المسيحى الديمقراطى والمسيحى الاجتماعى والتى ركدت عند حاجز ٢٦ بالمائة (وهو ما يعنى تفوقًا صريحًا للبديل لألمانيا مقارنة بحزب المستشار، الحزب المسيحى الديمقراطى، إذا ما فصل عن الشريك البافارى الحزب المسيحى الاجتماعى).
ولأن الشأن الأوروبى صار مع اتحاد الدول الأعضاء شأنًا داخليًا فى ألمانيا وغيرها من مجتمعات القارة العجوز، فإن الأولوية الثالثة لحكومة فريدريش ميرتس فى السياسة الداخلية هى دعم عمليات الاندماج الاقتصادى والتجارى والتكنولوجى والتعليمى دون أن يعنى ذلك إلغاء سلطات واختصاصات الدول وحكوماتها المنتخبة لجهة إدارة ملفات الأمن والهجرة واللجوء والحدود بمستويات أقل من التنسيق بين الأوروبيين.
خلال السنوات الماضية، عانت ألمانيا أكثر من غيرها من تخطى أعداد المهاجرين الشرعيين وغير الشرعيين وطالبى اللجوء ما تستطيع الولايات والمدن والقرى فى غرب وشرق البلاد استيعابه وفقًا لإمكاناتها الاقتصادية والاجتماعية وبناها التحتية والخدمية دون حدوث شروخ مجتمعية مؤثرة، وارتبط تلك المعاناة فى بعض جوانبها بتبنى بعض دول الاتحاد الأوروبى سياسات التقييد الشامل على القادمين من خارج القارة على نحو دفع المهاجرين وطالبى اللجوء إلى طرق أبواب دولة كألمانيا تمد مظلة الرعاية المجتمعية والخدمية لكل من هم على أرضها بصرف النظر عن وضعياتهم القانونية. ولذلك أعلن المرشح ميرتس قبل انتخابات ٢٠٢٥ عن عزمه عدم انتظار تغير سياسات دول أوروبية كالمجر وسلوفاكيا والتشيك وبولندا وإيطاليا فيما خص الهجرة واللجوء وتوجهه إلى تنفيذ سياسات ألمانية لتأمين الحدود والحد من أعداد المهاجرين واللاجئين القادمين إلى بلاده. وهذا تحديدا هو ما شرع المستشار ميرتس فى فعله خلال الأسابيع الماضية.
* • •
إذا كانت هذه هى أولويات الائتلاف الكبير فى السياسة الداخلية وإذا كانت أهدافها المعلنة هى الإنعاش الاقتصادى وحماية التجارة الحرة التى يعتمد عليها اقتصاد التصدير الألمانى والحد من صعود اليمين المتطرف من خلال السيطرة على ملفات الهجرة واللجوء وإظهار استقلالية فعل جمهورية برلين فى سياقات الاتحاد الأوروبى حين يتعلق الأمر بالأمن والحدود، فإن التعجل اليوم بالحكم على فرص النجاح واحتمالات الإخفاق وكذلك إطلاق التقييمات المتسرعة على أداء المستشار ميرتس (على النحو الذى قامت به صحيفة نيويورك تايمز حين نادت به زعيما للعالم الحر) تظل ممارسات غير موضوعية محفوفة بمخاطر الخطأ الفادح فيما خص تقدير إمكانيات الرجل الذى لم يختبر فى أى منصب تنفيذى قبل المستشارية ولديه نزوع صريح لليمين المتطرف ويكثر من الحديث العمومى الذى لا يحبه الألمان ويتناقض مع شروط العمل الحكومى الكفوء، وأيضًا فيما خص الظروف الموضوعية التى تتحرك فى سياقها حكومته والركود الاقتصادى لم يتراجع بعد وصعود البديل لألمانيا لم يتوقف بعد.