أفراح وليالٍ ملاح - جميل مطر - بوابة الشروق
الجمعة 15 نوفمبر 2024 3:03 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أفراح وليالٍ ملاح

نشر فى : الثلاثاء 10 أكتوبر 2023 - 7:25 م | آخر تحديث : الثلاثاء 10 أكتوبر 2023 - 7:25 م

اتصل بى زوجها قبل أسبوع من حلول مناسبة عيد ميلادها. تحدث هامسا فهى فى المكان وليست بعيدة عن مدى الصوت. قال ما معناه إنه يخطط للاحتفال بعيدها فى بيتهما الكائن بالحى البعيد جدا ويريدنى أنا وآخرين أن نتكتم على الأمر وأكون أنا أول من يصل من المدعوات والمدعوين وهم خمسة. طلب منها أن تستعد لسهرة خارج المنزل يقضيانها معا كعادتهما فى هذه المناسبة من كل عام. خلافا لعادة جديدة لم أعتذر بذريعة بعد المسافة أو الانشغال بالكتابة أو توقع زوار من أهل الحى. قبلت الدعوة ممتنا وأمنت على مؤامرة التكتم مترقبا سهرة فيها إثارة وشلة أصدقاء طال فراقنا.
• • •
وصلت لأجد بيتا أغلب أنواره مطفأة وكلابه لا تنبح وقططه مختفية والهدوء من حوله لا يطمئن. انتظرت فى السيارة حتى يحين الموعد المتفق عليه، وعندما حان، نزلت وخطوت فى ظلام دامس أحسب حسابا ضد عثرات من ساقين انتابهما كسل أو خمول نتيجة رحلة الساعة وعشرين دقيقة بالسيارة. ضغطت على جرس الباب فانفتح ليستقبلنى وجه شديد السمرة وابتسامة حلوة كشفت عن أسنان براقة وناصعة البياض. لم تتكلم صاحبة الوجه الأسمر. انتحت جانبا بمعنى أن أتفضل. دخلت بصمت. أضاءت البهو ثم صالة الاستقبال وتركتنى أختار مقعدا مريحا وغابت عن أنظارى. دقائق قليلة مرت قبل أن يظهر أمامى رب البيت وإصبعه على فمه علامة الاستمرار فى تنفيذ الخطة. صدرت منه إشارات لم أفهم القصد منها وبعدها نادى بصوت عالٍ على زوجته لتنزل من طابق غرف النوم استعدادا للخروج حسب وعده لها. نزلت وفى لحظة وجدتنى واقفا فى استقبالها ومهنئا لها حلول المناسبة. لم تعرف ماذا تقول، ولكنها ألقت بنفسها فى حضن زوجها تشكره على مفاجأة وجودى فى بيتها فى هذه الليلة، كهدية منه فى عيد ميلادها. رأيت دمعة وهى تمسحها بعد الحضن لعلها كانت دمعة فرح أو دمعة عرفان لزوج نجح فى أن يقنعنى بالحضور إلى بيتها ليلة عيدها.
• • •
هدأت وهدأنا. سألتنى «هل تعرف كم بلغت اليوم من العمر؟». أجبت «أعرف طبعا. يكفى أن أخصم من عمرى سبعين سنة أو أقل قليلا فيكون عمرك. وإن نسيت فلن أنسى يوم اتفقنا على أن تعملى معنا، مع هديل غنيم وسيف سلماوى ونانيس خليل ومعى، كنا نعد ونستعد لإصدار مجلة «الكتب: وجهات نظر». تذكرين ولا شك أنه كانت لك مهمة محددة، أن تقرئى وثيقة بعد وثيقة من وثائق الخارجية الأمريكية وتستخرجى للأستاذ هيكل أهم تطورات وأسرار علاقة أمريكا بالعالم العربى خلال قرن من الزمن. كان هيكل وقتها يخطط لكتاب عن أمريكا والشرق الأوسط ينشره تباعا فى مجلتنا. كنت يا زميلتى الصغيرة على ما أذكر على وشك التخرج من الجامعة متفوقة وجميلة وهيفاء القوام تماما كابنتيك اللتين رحبتا بى قبل دقائق».
• • •
قبل شهر من اليوم اتصلت بى إحدى أكبر حفيداتى وبالدقة اللازمة هى فى حكم أن تكون فى مكانة حفيدتى. قالت «يا خالو، أحب أن تعرف أننا قررنا عقد قران ابنتى الأكبر على الشاب الذى اختارته لنفسها قبل عام أو أكثر حبيبا ثم خطيبا وها هى تقرره زوجا. دعوناك لخطوبتهما والآن ندعوك لعرسهما. أما المراسم فكثيرة وأنا واثقة من أنك لن تبخل علينا ببعض وقتك».
• • •
تتفرق مراسم الأفراح، حسب ما شرحت، على امتداد شهر أو أقل قليلا. تذكرت وأنا أتصفح بطاقات الدعوة وأراجع تعليمات تنفيذها ومواقعها مع آخرين فى العائلة ومع السائق الذى سوف يتكفل بتسهيل التنقلات، تذكرت أفراح عائلتى عندما كنت طفلا ثم مراهقا كطالب فى الثانوى أو الجامعى. كانت الأفراح فرصة للأطفال ليتخلصوا من سيطرة الأهل. نجرى صبيانا وبنات بين المعازيم ونتسلل إلى المطابخ ونلعب «الاستغماية» مطمئنين إلى انشغال الأهل والخدم والمربيات عنا. كانت الأفراح متعة للأطفال لا تعادلها متعة أخرى بدليل أننا لا نزال نذكر تفاصيلها إلى أدق وأصغر وأقل الأحداث أهمية.
متعتنا فى الأعراس كمراهقين كانت أوسع وأكثر تنوعا. كان ينصب للموسيقيين موقع فى سرادق العرس بأعلى البناية التى تقيم فيها العروس. وكانت الراقصات يغيرن ثيابهن فى شقتها التى نشأت فيها أو فى شقة من شقق الجيران. كثيرا ما حاولنا أن يكون لنا مكان بين كبار السن وفى الوقت نفسه نكثر من التنقل بين الطوابق وفى الشارع نتباهى بالملابس التى اشتريت خصيصا للمناسبة. لم نكن ندرك أننا فى هذه السن صرنا هدفا لتقييم خالاتنا وعماتنا وغيرهن من أهل الطرف الآخر فى العرس، عرسانا أو عرائس فى المستقبل.
• • •
ما أذكره بكل الوضوح الممكن هو منظر الرجال كبار السن من اهالينا و«أهاليهم». أذكر أننا كنا نخشاهم. نخشى غضبهم من الضجة التى نثيرها كأطفال ونغضب من إهمالهم المتعمد لنا كمراهقين ومراهقات أو من نظرات الحسد. كانوا دائما وقورين جدا، أغلبهم يأتى ومعه عصاته يستند عليها أو يطرد بها الكلاب والقطط والأطفال المزعجين دائما. كنا نحسدهم على نعمة كونهم أول فوج يدعى لتناول الطعام الخارج لتوه من المطابخ. أذكر أن بعض أمهاتنا كن حريصات على إبعادنا عن موائد كبار السن تفاديا لرد الفعل من جانبهم، وأن بعضا آخر منهن كن أشد حرصا على تأمين مقاعد لأولادهم حتى بين الكبار. منظر كبار السن بشعرهم الشايب وظهورهم المنحنية وعصيهم وارتفاع نبرة أصواتهم ولمعان أحذيتهم وجواربهم الحريرية المشدودة دائما إلى أعلى وربطات العنق المتدلية إلى ما تحت البطن بكثير ظل محفورا فى ذاكرتى أقارنه بمنظر واقعنا، واقع كبار السن فى العصر الذى نعيش فيه.
• • •
كان وجود عدد من الأقارب من ذوى العمر المتقدم فى المناسبات العائلية مصدر بركة فى بعض الأوساط وعزوة فى معظمها. حدث هذا عندما كان كبير العائلة يبدو كهلا فى شكله وتصرفاته ولم يتجاوز عمره الخمسين. فى أيامنا يعيش كبير العائلة حتى سن الثمانين والتسعين وشكله وتصرفاته لا تزال بعيدة عن مواصفات هذا العمر المتقدم فى ماضى الأيام. لا وقار كوقار الأولين ولا هيبة وربما لا بركة ما تعودنا عليه فى سالف الأزمنة ولا الحكمة المفترضة غالبا فى من بلغ هذا العمر.
• • •
أيا كان حكم الزمن، أعترف أننى كنت سعيدا عندما أديت دور هدية عيد الميلاد لرنوش مساعدتى الرائعة بعد مرور سبعين سنة على أول لقاء لنا. أصرح أيضا بصفتى كبير عائلة «جنا» أننى سوف أكون سعيدا بتلبية دعوتها لمشاركتها الاستمتاع بسلسلة من الأفراح والليالى الملاح بمناسبة زواجها.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي