هوس الكتب - داليا شمس - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 8:50 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

هوس الكتب

نشر فى : السبت 11 فبراير 2023 - 9:20 م | آخر تحديث : السبت 11 فبراير 2023 - 9:20 م

ودعنا النسخة الرابعة والخمسين من معرض القاهرة للكتاب، وخرج الكثيرون بمؤلفات جديدة سيضعونها على أرفف مكتباتهم. يقرؤونها تباعا أو يكتفى بعضهم برصها وفق نظام محكم أو فى فوضوية محببة، فهم يستمتعون بفكرة التراكم والامتلاك، بل قد يكون ذلك هو ما يستهويهم ويدفعهم للشراء فى المرتبة الأولى وليست الرغبة فى المعرفة. الفارق دقيق جدا بين حب الكتب وهوس الشراء والاقتناء. عند حد معين يتحول الشغف إلى شره دائم وسلوك قهرى ونوع من الاضطراب النفسى غير معترف به، يُطلق عليه «ببلومانيا». ويُقال دوما إن متعة القارئ العادى معرفية، أما متعة «مجنون» الكتب فهى حسية ترتبط باللمس ورائحة الورق وصوت تقليب الصفحات. يشعر بالانجذاب نحوها ويكدسها لكن لا يجد ربما الوقت لمطالعتها، وهى ظاهرة عالمية وصفها اليابانيون بمصطلح «تسوندوكو»، عُرفت منذ ظهور الكتب حتى قبل اختراع الطباعة فى القرن الخامس عشر، إذ حرص بعض أفراد العائلات الكبيرة والنبلاء على ترك مجموعات هائلة لذويهم من الكتب النادرة والنسخ الثمينة التى توارثتها الأجيال. وكانت المزادات تقام لبيع أملاكهم بحضور الأثرياء، لكن مع انتشار الطباعة صارت تدريجيا حيازة الكتب فى متناول الجميع ولم تعد حكرا على طبقة بعينها. حدث نوع من «الدمقرطة» التى ساهمت فى ذيوع «الببلومانيا»، وتم صك المصطلح رسميا فى غضون القرن الثامن عشر.
• • •
قبل ذلك سجل الكاتب الفرنسى الشهير جان دى لابرويير فى نهاية القرن السابع عشر انطباعاته عن البشر المهووسين بالكتب من خلال إحدى شخصيات مؤلفه الشهير «الطبائع» الذى رصد فيه شكل المجتمع وقتها مع التركيز على كل ما هو غريب. ولم يكن لابرويير الوحيد الذى تعرض لهذه الظاهرة بل كتب عنها الكثيرون منهم على سبيل المثال لا الحصر الفيلسوف الساخر لوسيان دى ساموزات (125ــ192)، الذى ولد فى سوريا وتوفى على الأغلب فى الإسكندرية حيث استقر، والشاعر الإيطالى بترارك فى القرون الوسطى، والناشر شارل نودييه صاحب حكايات مصاصى الدماء، والروائى جوستاف فلوبير وغيرهم من الذين برعوا فى تصوير تركيبة هذه الشخصيات التى تتوارى وراء الكتب وترفض أن تعيرها لأحد وتحب التباهى بها وتكتسب نوعا من التفوق على الآخرين باقتنائها، فالكتب دوما ما ارتبطت بالثقافة والحكمة وسعة الاطلاع.
وقد يذهب البعض فى غوايته إلى حد ارتكاب السرقة بغرض إشباع حاجة ملحة وهو ما تناوله بعض الكُتاب بالتحليل معتمدين على شخصيات ووقائع حقيقية. نشرت مثلا الصحافية الأمريكية أليسون هوفر بارتليت عام 2009 رواية (The man who loved books too much) التى ترجمتها دار المدى بعنوان «عاشق الكتب». تغوص بنا الرواية فى عالم جمع الكتب من الثمانينيات وحتى بداية الألفية، من خلال حكايات تتعلق جميعها بنشوة الحيازة أو هلع الفقد، ونتابع مغامرات لص الكتب الشهير جون شارل جيلكى الذى سرق أعمالا نادرة بمئات الآلاف من الدولارات والمحقق البوليسى ــ كِن ساندرــ الذى كان يحاول القبض عليه، وهو أيضا مولع بالكتب وخبير بها.
يعترف جون جيلكى أنه مهووس بسرقة الكتب النفيسة دون قراءتها، بإغواء النقوش والحواف الخشنة للصفحات. تم القبض عليه أكثر من مرة فى نهاية التسعينيات وبعد الإفراج عنه كان يعاود الكرة ويتفنن فى إيجاد ألاعيب جديدة تمكنه من تحقيق غايته، وقد استمر فى هوايته حتى تاريخ صدور سيرة حياته. خلال التحقيقات لم يعط تفاصيل أو تبريرات، ولم يُسلم بأن ما فعله جريمة يحاسِب عليها القانون، بل اعتبر أنه كان يلبى نداء الطبيعة، مثله مثل رجل أمريكى آخر وهو ستيفن بلومبرج الذى وقف عام 1991 فى قاعة المحكمة مدانا بسرقة أكثر من 23600 كتاب، على مدى عشرين عاما، بقيمة تتجاوز خمسة ملايين دولار. كان بلومبرج المصاب بالسلوك القهرى مقتنعا بأنه ينقذ الكتب بسرقتها لأن الحكومة لا تتيحها للعامة، وبالتالى قرر أن يتولى الأمر بنفسه، وحُكم عليه بالسجن لمدة 71 شهرا ودفع غرامة قدرها 200 ألف دولار، وبعد إطلاق سراحه فى منتصف التسعينيات لم يتوقف عن السرقة وتردد على قاعات المحاكم عدة مرات.
• • •
تلك بالطبع حالات استثنائية لا تسرى على كل من امتلكوا مكتبات ضخمة وعملوا بالأدب أو اشتهروا بثقافتهم الواسعة. ونجد أن هناك من بين محبى جمع واقتناء الكتب الذين لا تقنعهم الرقمنة والنسخ الإلكترونية، هم يرغبون فى لمس الكتاب وتقليب صفحاته، حتى لو لم يقرأوا ما ملكت يداهم على الفور. يعطيهم تكديس الكتب شعورا بالامتلاء، بالزخم، بالقنص، بالأمان من غدر الأيام، بترك أثر باقٍ.
وفى حين ركز معظم المؤلفين والمحللين على كون المفتونون بجمع الكتب لا يفتحونها غالبا مثل الشخصية التى رسمها لابرويير، يرى المفكر الإيطالى الراحل أمبرتو إيكو الأمر بشكل مختلف ويدافع عن حب اقتنائها فى كتابه الصادر عام 2009 «لا تتوقعوا التخلص من الكتب»، فعادة نحن نشترى الأعمال لأننا سمعنا عنها أو مدحها لنا أحدهم وشجعنا على شرائها أو كانت مذكورة فى أحد الهوامش، لكننا لا نجد بالضرورة الوقت المناسب لقراءتها فنتركها على الرف مع غيرها من الكتب، لكن بالطبع سيأتى يوم نمسك بها ونقرر معرفة ما تحمله بين ضفاتها. «حينئذ لن تكون هذه الكتب غريبة بالنسبة لك، فقد فتحت بعضها من قبل أو حركتها من مكانها أو حتى تصفحتها، لكنك لا تتذكر»، على هذا النحو يستمر أمبرتو إيكو فى مديح الكتب المكدسة على الأرفف أو داخل الصناديق، كأنها صارت «عِشرة قديمة» وترتبط بعلاقات متشعبة تضرب بجذورها فى حياتنا. وبالطبع سيجد بعض هواة الكتب، وأنا منهم، فى هذه الفلسفة المغايرة نوعا من الراحة ووعودا باكتشافات قادمة من أعلى الأرفف، دون إحساس بالذنب لانتفاء شبهة «الببلومانيا».

التعليقات