هَــــــزَّة - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 3 مايو 2024 6:15 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

هَــــــزَّة

نشر فى : الجمعة 11 مارس 2022 - 8:50 م | آخر تحديث : الجمعة 11 مارس 2022 - 8:50 م
وضعت المرأة يدها في حقيبة ضخمة تعلقها على كتفها، بحثت قليلًا إلى اليمين وإلى اليسار ثم خرجت بمحفظة قماشية كالحة فتحتها باحثة عن المراد ولما فشلت هزتها هزتين متتاليتين فلم تسمع صوتًا. اعتذرت للبائع وغادرت من أمام المخبز تتعثر في خجلها، تاركة مكانها لآخرين.
• • •
الهَزَّة هي المرة الواحدة من الفعل هَزَّ، أي حرك حركات متتالية وسريعة. ثمَّة هَزَّةٌ مَعنويةٌ وأخرى مَلموسة وثالثة مَجازية. إذا وصف واحد موقفًا مر به بأنه صاعقة تهتز لها الجبال، فالقول حتمًا من المجاز؛ فلا صاعقة حقيقية، ولا جبل ارتجف والقصد بيان الأثر القوي لما وقع. من المجاز أيضًا ما صاغ العبقري بديع خيري ولحَّن العظيم سيد درويش: ”هِزّ الهلال يا سيد كرماتك لأجل نعيد“. مطلع سهل ممتنع يتردد حاملًا رسالة بليغة؛ فيها من الاستعارات والكنايات ما تبلوره المقاطع التالية التي بقيت حية في الذاكرة الجمعية حتى يومنا هذا.
• • •
هزّ فراش الرضيع يساعده على النوم. هدهدة خفيفة تبعث على الاسترخاء وتهدئ التوتر وتجلب إلى الأجفان النعاس، فإذا كبر وصار في عمر الطفولة وانطلق يلعب ويستكشف الدنيا من حوله، طلب من يهزه جالسًا أو واقفًا على الأرجوحة؛ إلى أن يتمكن من دفعها بنفسه، وإذا نضج وبات في سني كهولته ثم انتقل إلى الشيخوخة؛ كان الكرسي الهزاز الذي يريح الناظر إليه ولو لم يجربه ولم يستمتع بحركته. ليست قطع الأثاث وحدها التي يمكن هزها؛ فقد يهز الواحد رأسه موافقًا، وقد يهزها أيضًا رافضًا ممتنعًا، وربما كانت الهزَّةُ بلا معنى أو معبرة عن اللا مبالاة. هناك كذلك هز الوسط؛ يكنى به الرقص الشرقي، لكنه لا يقتصر عليه؛ فالتعبير يشي بسلوك عام، فيه انحناءات وانحرافات لا تلتزم المسار القويم.
• • •
ثمة هزة أرضية قد يستشعر الناس قوتها وقد تمر عليهم مرور الكرام دون أن تلقي إليهم بالفزع. ثمة عوامل مؤثرة في استشعار الزلازل منها درجة القوة أو الشدة التي تقاس بالريختر، ومنها أيضًا الاتجاه الذي تتحرك فيه طبقات الأرض. قد تكون الهزة رأسية أو تتمدد أفقيًا، وقد يجتمع الاثنان سويًا، ولا أشهر لدينا من الهزة التي فاجأتنا في مطلع التسعينيات فأخلفت دمارًا لم نعتده من قبل، ولا أكثر التصاقًا بالذاكرة من قصة أكثم الذي بقي مدفونًا تحت أنقاض عمارة هليوبوليس أيامًا، خرج بعدها حيًا لكنه لم يكن بكل تأكيد معافى؛ فالويل الذي ذاق ومن حوله أشخاص يفقدون أرواحهم؛ ترك عليه دون شك بصمة عميقة.
• • •
الهزة النفسية قد تعقب صدمة شديدة والصدمات أنواع، كما أن القدرة على تحملها وامتصاصها والتعامل معها تتباين من شخص لآخر وللمحيطين به دور لا يغفل، والنتيجة النهائية هي حاصل جمع وطرح مؤثرات عديدة. الشخص المهزوز هو العاجز عن الصمود أمام المواقف التي يتعرض لها والمنهار أمام تداعياتها، ليس بالضرورة أن تكون صعبة أو مخيفة؛ إنما استقباله لها وإحساسه بها يمثلان أمرين حاكمين.
• • •
على صعيد آخر ثمة هزة اجتماعية تخلقها بعضُ الأحداث الكبرى، ومنها ما قد تُبتلى به البشرية من أوبئة وكوارث طبيعية، وما تخلقه بأيديها من حروب ومعارك، وما تبتدعه من منجزات تكنولوجية تغير شكل الخارطة وتعيد ترسيم الحدود بين الناس وتؤطر العلاقات وتصنع لها قواعد جديدة. غيرت مواقع التواصل طبائع المجتمعات؛ شرقية وغربية، وضاعفت مُسببات الاكتئاب والقلق المتزايدين، وجعلت المرء منعزلا؛ يرى صورته من خلال الشاشة وحدها؛ فلا عاد قادرًا على التواصل المباشر، ولا صارت المرآة العادية كافية. الهزَّةُ عميقة والتطور عنيف، والنتائج فيها من القسوة ما يفيض عن الحاجة والاحتمال.
• • •
الهزة غير المتوقعة قادرة على خلخلة ما بدا ثابتًا؛ قد تقوض الدعائم والأركان، وتعيد هيكلة أسلوب الحياة، وتخلق في لمح البصر واقعًا جديدًا لم يكن في الحسبان.
بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات