المديونية والاقتصاد والدولة الحديثة فى مصر - إبراهيم عوض - بوابة الشروق
الثلاثاء 23 أبريل 2024 8:23 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

المديونية والاقتصاد والدولة الحديثة فى مصر

نشر فى : السبت 11 يونيو 2022 - 9:15 م | آخر تحديث : الأحد 12 يونيو 2022 - 12:05 م

أعلنت الدولة فى مصر أنها تواجه أزمة مالية حادة، وهى أزمة أدت بها إلى الدعوة إلى حوار وطنى بين القوى السياسية وغير السياسية ما زال حتى اللحظة فى أطواره التمهيدية. تناولت هذه المساحة من «الشروق» الحوار منذ أربعة أسابيع مضت. مقال اليوم مخصص للأزمة التى أعلنت عنها الحكومة وما وراءها.
• • •
تنسب الأزمة المالية إلى الحرب الروسية الأوكرانية الجارية فهى أدت إلى ارتفاع أسعار القمح والذرة، ومصر أكبر دولة مستوردة للقمح فى العالم، فضلا عن تأثيرها على السياحة، فأوكرانيا كانت ثانى مصدر للسياح الآتين إلى مصر فى سنة 2019، وكانت مصر تعول كثيرا على عودة السياحة الروسية إليها. غير أن للأزمة المالية أسبابا مباشرة أخرى يمكن اختصارها فى تضخم المديونية، خاصة الخارجية منها، ومتطلبات خدمتها، وفى خروج أموال أجنبية من مصر.
التقديرات الدقيقة لهذه الأموال تختلف شيئا ما عن بعضها البعض، ربما لتباين فترات قياسها، ولكنها متفقة فى خطوطها العامة. يذهب مختصون بمتابعة التدفقات المالية من النقد الأجنبى إلى أنه خرجت من مصر فى الأشهر الماضية مبالغ تقدر بعشرين مليار دولار كانت ما يسمى «بالمال الساخن» المستثمر فى الأوراق المالية بحثا عن أعلى عائد مقرونا بالاستقرار المالى والثقة فيما هو آت. خروج هذه المليارات يعنى شعور مستثمريها بأن الاستقرار اختل وبأن ثقتهم فى المستقبل قد اهتزت. فى المقابل يقدِر هؤلاء المختصون أنه دخلت مصر فى نفس الأشهر الماضية ثلاثة عشر مليار دولار على شكل استثمارات هى شراء لأصول مصرية قامت بها دول الخليج، وعليه فإن الوضع حتى نهاية العام الجارى 2022 لا يدعو لكثير من القلق فى رأى هؤلاء المختصين. غير أن الصورة تتغير فيما بعد، حيث أنه سيكون على مصر أن تسدد ما يتعدى العشرين مليار دولار سنويا فى المتوسط فى العام 2023 والأعوام التالية عليه. تنامى المديونية الخارجية يدعو للتعجب. حسب بيانات البنك المركزى المصرى، من 96,6 مليار دولار فى نهاية ديسمبر سنة 2018 ارتفعت المديونية الخارجية إلى 145,5 مليار لدى نهاية ديسمبر سنة 2021، أى فيما قبل اندلاع الحرب فى أوكرانيا، بنسبة زيادة بلغت 50,6 فى المائة فى مجرد ثلاث سنوات. جدير بالذكر أن البنك المركزى المصرى قد أعلن يوم الخميس الماضى 9 يونيو أنه سدد منذ بداية العام، أى فيما أقل من ستة أشهر، 24 مليار دولار ديونا خارجية منها عشرة مليارات لخدمة الدين و14 مليارا مقابل سندات مستحقة. الشىء الأعجب هو الانزعاج من العبء الذى تمثله المديونية وخدمتها. هذا الانزعاج يعنى تسليما بأن ما أُنفقت عليه الأموال المقترضة لن يدر عائدات تسمح بسداد خدمة الدين. هل فى هذا مفاجأة؟ ألم يكن للاستدانة ولتسديد خدمتها خطة مسبَقة؟ فوائد الدين الخارجى التهمت 9,3 فى المائة من حصيلة الصادرات فى السنة المالية 21ــ2020، وهى ثلاثة أمثال هذه النسبة فى السنة المالية 17ــ2016. تكرر الحديث فى السنوات الأخيرة عن أن الدين الخارجى فى الحدود الآمنة فهو لم يتعد الـ 34,2 فى المائة من الناتج المحلى الإجمالى فى سنة 21ــ2020. غير أن العبرة ليست بالنسبة إلى الناتج المحلى الإجمالى وحدها وإنما بقدرة الاقتصاد الوطنى على خدمة الدين. فإن نظرنا إلى نمو نسبة فوائد الدين الخارجى إلى الصادرات السلعية والخدمية، فى الوقت الذى تعانى فيه مصر من عجز مزمن فى الميزان التجارى، يعبر عنه بلا تعليق أن الواردات غير النفطية فى سنة 2021 بلغت قيمتها 76,8 مليار دولار بينما لم تتعد قيمة الصادرات غير النفطية 32,3 مليار دولار، بصرف النظر عن الحرب الروسية الأوكرانية، ندرك إلى أى حد المشكلة عويصة. أولى خطوات التصدى للمشكلة هى الكف عن السياسات التى أدت إلى تنامى الديون الخارجية بمعدلات غير مسبوقة دون أخذ القدرة على خدمتها فى الاعتبار. حصيلة تحويلات المصريين العاملين فى الخارج تعدت الثلاثين مليار دولار ومع ذلك فهى غير كافية لسد العجز فى الميزان التجارى. أما شراء دول الخليج للأصول المصرية فليس حلا قابلا للاستدامة فضلا عن أنه غير مطلوب على إطلاقه.
أما إذا أضيفت إلى المديونية الخارجية، المديونية الداخلية فإن إجمالى الدين العام يصل إلى 93,7 فى المائة من الناتج المحلى الإجمالى، وهى نسبة تنشد الحكومة الهبوط بها إلى 87 فى المائة بنهاية سنة 2022. يرى بعض الاقتصاديين أن الدين الداخلى ليس مشكلة كبيرة لأن انخفاض سعر صرف العملة المحلية، وهو ما حدث بالفعل، يخفض من القيمة الحقيقية لخدمته. هذا صحيح، ولكنه يعنى ببساطة أن ما تسدده الحكومة للمواطنين المدخرين عن طريق الجهاز المصرفى أقل فى قيمته الحقيقية مما كان عليه عندما اقترضته منهم. بإيجاز محصلة السياستين المالية والنقدية هى خسارة المواطنين لقيمة مدخراتهم.
• • •
نظرة على مستوى أعلى فى التحليل تدفعنا للتساؤل عن أسباب ارتفاع مجمل الدين العام الداخلى والخارجى، الرد على هذا التساؤل بسيط وهو أنه بالإضافة إلى العجز الخارجى يوجد العجز الداخلى، أى عجز الميزانية العامة. إجمالى العجزين هو ما يدفع الحكومة إلى الاقتراض من أجل الإنفاق على أبواب منها ما يستحق ومنها ما قد لا يستحق. لا بدَ من التخلص مما لا يستحق الإنفاق عليه، وهذا قرار سياسى. الاقتصاد يعمل فى داخل إطار سياسى. ولكن مع ذلك ستبقى أبواب تستحق الإنفاق عليها وبالتالى لا تختفى مشكلة الاقتراض والاستدانة لسد ما يسمى بالفجوتين، فجوة الموارد الخارجية وفجوة الموارد الداخلية اللتين تتسببان فى انخفاض معدل الادخار الداخلى. فما السبب فى هاتين الفجوتين وفى أن مشكلة الاقتراض والاستدانة لن تختفى؟ السبب يكمن فى تقدير كاتب هذا المقال فى أن الاقتصاد الوطنى غير قادر على تمويل الدولة الحديثة فى مصر أو، بعبارة أكثر إفصاحا، على تمويل الوظائف التى تضطلع بها الدولة الحديثة. الدولة فى مصر على عهودها المتتالية قدمت نفسها على أنها دولة حديثة وأخذت على عاتقها الاضطلاع بالوظائف المنوطة بأى دولة حديثة فى مجالات التعليم والصحة والبنية الأساسية والإسكان والرعاية الاجتماعية، ناهيك عن الأمن والدفاع وإدارة العدالة والتمثيل الخارجى فى الوقت الذى ينتج فيه الاقتصاد الوطنى قيمة مضافة منخفضة نتيجة لانخفاض إنتاجية عوامل الإنتاج فيه. القيمة المضافة المنخفضة تولد إيرادات عامة منخفضة، سواء تحسن التحصيل الضريبى أو لم يتحسن، فتضطر الحكومة إلى الاقتراض. مرة أخرى نشدد على أن كل أوجه إنفاق القروض ليست بالضرورة فى محلها. ولكن المعضلة الكبرى هى فى أوجه الإنفاق الوجيهة وبعضها، مثل التعليم والصحة والإسكان، يستحق حتى المزيد من الإنفاق.
النكوص عن الاضطلاع بوظائف الدولة الحديثة، والعادلة، غير مطروح. الطريق الوحيد إلى الاضطلاع بها هو بناء اقتصاد ذو إنتاجية متنامية يوفر فرص عمل يستطيع العاملون من خلالها المساهمة فى استمرار التنمية عن طريق النمو الاقتصادى والتوزيع العادل لعوائده. هذا التوزيع العادل هو نتيجة لنمو الأنشطة الاقتصادية مرتفعة الإنتاجية التى تستطيع بالتالى أن توفر أجورا مجزية تفى باحتياجات العاملين وأسرهم. التنمية الصحية التى توفر الموارد الضرورية للاضطلاع بوظائف الدولة الحديثة والعادلة تثير إذن مسألة نمط النمو وتوزيعه القطاعى. نمط للنمو يركز مثلا على القطاع العقارى والبنية الأساسية، خاصة وأنهما فى الأغلب الأعم كثيفا اليد العاملة، لا يمكن أن يفى بالغرض، فهما قطاعان منخفضا الإنتاجية عموما وبالتالى هما لا يدران على الدولة إيرادات مرتفعة ولا هما يولدان أجورا مجزية على العاملين فيهما. نعم هما بذلك يخلقان فرصا للعمل، ولكن بأى شروط وظروف للعمل، وهل هو عمل دائم أم مؤقت أو متقطع؟ فى المقابل، قطاعا النفط والغاز كثيفا رأس المال، ولذلك فإن إنتاجيتهما شديدة الارتفاع ولكن التشغيل فيهما قليل فينتفى عنهما بذلك توزيع عوائد النمو على العاملين. فى مثل هذه الحالة يكون على الدولة الحديثة العادلة أن تعيد توزيع الدخل بالإنفاق على السياسات الاجتماعية كسياسات التعليم والصحة والإسكان. الدكتور مصطفى كامل السيد أثار مسألة نمط النمو فى مقاله فى نفس هذه الصفحة فى الأسبوع الماضى.
أما الدكتور سمير رضوان فقد شدد فى الأسبوع السابق عليه، فى نفس هذه الصفحة كذلك، على التصنيع كسبيل لا بديل له للتنمية، وهو حسنا فعل.
• • •
الصناعة التحويلية، وبدرجات متفاوتة حسب فرع النشاط الاقتصادى وفنون الإنتاج المستخدمة، تجمع بين خلق فرص العمل وارتفاع الإنتاجية. يمكن أن نضيف إلى التصنيع الخدمات مرتفعة القيمة المضافة، وهى قطاع توسع وتعددت المهن فيه فى العقود الأخيرة من القرن العشرين وفى القرن الحادى والعشرين خصوصا. التركيز على التصنيع والخدمات مرتفعة القيمة المضافة يمكن أن يعمل على تلبية الطلب فى السوق المحلية وأن يتوجه أيضا إلى الأسواق الخارجية حتى لا ينتهى نمط التنمية هذا إلى الاصطدام بعقبة توفير النقد الأجنبى، وهو الضرورى لاستمرار الإنتاج باستيراد مدخلاته. الاندراج فى سلاسل القيمة العالمية هو فى حد ذاته توجه إلى الأسواق الخارجية.
مسألة التشغيل التى أشرنا إليها سريعا أعلاه عظيمة الأهمية للاقتصاد وللدولة الحديثة. وإن كان يجب التحكم فى نمو قوة العمل وألا تترك على عواهنها، فإن تشغيل القوة العاملة مورد للاقتصاد وليس عبئا عليه، أو هكذا ينبغى اعتباره. هذه القوة العاملة لا بد أن تكون مهيأة ومدربة. غير أن التهيئة والتدريب لن يفيدا فى شىء بل سيتراجعان ويتدهور مستواهما إن لم يوجد طلب على هذه القوة العاملة المدربة. لذلك يحسن أن تتواكب السياسات الصناعية التى تخلق فرصا للعمل بمواصفات محددة مع سياسة للتشغيل، فيها مكون تدريبى وإعادة تدريبى، يزود طالبى فرص العمل بالمواصفات المحددة المطلوبة فيمن يعمل فى هذه الفرص. غنى عن البيان أن التعليم الجيد هو الأساس الضرورى لنجاح مكون التدريب وإعادة التدريب فى أى سياسة للتشغيل.
لا بد من وقف العمل بالسياسات التى أدت إلى الاستدانة دون كابح، وفتح الباب للمشاركة فى صياغة بدائل لها هى أولى الخطوات المطلوبة للخروج من الأزمة المالية على المدى القصير.
أما على المديين المتوسط والبعيد فالهدف هو نمط للنمو يسمح بتنمية مستدامة ترفع من مستوى الأجور والدخول، وتحسن من مستويات المعيشة، وتوفر الموارد الضرورية لاضطلاع الدولة فعلا، وليس مظهريا، بالوظائف المتوقعة من دولة حديثة وعادلة فى مصر.

أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة

إبراهيم عوض أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة
التعليقات