المقصود بالعنوان هو أن الزوارق الحربية المتمركزة قبالة السواحل الفنزويلية تهدد تقدّمًا هائلًا حققته دول الجنوب العالمى، وهو ترسيخ مبدأ السيادة الدائمة على الموارد الطبيعية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أثناء الكفاح من أجل تصفية الاستعمار وبعد أن تحقق القسط الأكبر منها.
دبلوماسية الزوارق الحربية هى أسلوب درجت عليه الدول الاستعمارية أثناء حقبة الإمبريالية فى القرنين الثامن عشر، وخاصة التاسع عشر، لتحقيق مكتسبات سياسية أو اقتصادية، أو كليهما، من الدول الأقل قوة، بإرسال الزوارق والبوارج الحربية لتتموضع أمام سواحلها.
مارست بريطانيا هذا الأسلوب بتموضع زوارقها الحربية أمام سواحل الصين، مثلًا، إبان حروب الأفيون التى فرضتها عليها فى العقدين الخامس والسادس من القرن التاسع عشر، وأمام مصر نفسها؛ فالغزو البريطانى لمصر واحتلالها سنة 1882 بدأ بتموضع البوارج البريطانية أمام الإسكندرية وقصفها. كما مارست الولايات المتحدة دبلوماسية الزوارق، وكان من أبرز الأمثلة التاريخية على هذه الممارسة حصار بوارج الكومودور بيرى للسواحل اليابانية سنة 1856، وفرضه على اليابان فتح موانئها وكامل إقليمها أمام المصالح التجارية الأمريكية والأجنبية عمومًا. كذلك مارست الولايات المتحدة هذه الدبلوماسية، كما بدا لها، لحماية مصالح شركة الفواكه المتحدة الناشطة فى بلدان أمريكا اللاتينية. ومارست ألمانيا دبلوماسية الزوارق فى شرق إفريقيا، كما مارستها فرنسا، مثلًا، فى الجزائر سنة 1830 تمهيدًا لاحتلالها.
• • •
الرئيس الأمريكى دونالد ترامب لا يعير بالًا لجهد البشرية لتنظيم العلاقات بين الدول. وقد يحتج محتجٌّ بأن هذا التنظيم غير عادل، بل ظالم، للدول الأضعف أو لدول الجنوب العالمى عمومًا. فليكن. ولكن حتى القانون غير العادل يوفر نوعًا من الحماية. غياب القانون يفتح الباب أمام الدول الكبرى لتفكيك كل نظام يقيّدها، حتى تفعل ما تراه لها فى الدول الأقل قوة، فيما يُسمّى الآن بالجنوب العالمى.
فى خطاب تولّيه فترة رئاسته الثانية فى يناير الماضى، قال الرئيس ترامب إن بلاده لم تُعِد قناة بنما لبنما لكى تديرها الصين، ولذلك فإن الولايات المتحدة تطالب باستعادتها. وكأنما ليس لبنما أن تتخذ القرارات التى تخص إقليمها ومواردها بنفسها.
المبرر الأول لعداء الرئيس الأمريكى لنظام الرئيس نيكولاس مادورو فى فنزويلا هو حكمه التسلطى فى بلاده، والزعم بأنه زوّر نتيجة الانتخابات الرئاسية الأخيرة سنة 2024 واغتصب الرئاسة من المرشح الذى كان يحظى بالتأييد الأمريكى. وليس موضوع هذا المقال تفنيد هذا التبرير الأمريكى أو تأييده. أما المبرر الثانى، وهو المحرّك المباشر للزوارق الأمريكية، فكان محاربة تجارة المخدرات وتوقيف السفن التى تحمل المخدرات إلى السوق الأمريكية، باعتبارها تهدد الأمن الأمريكى. وقد أطلقت الزوارق والبوارج الأمريكية النار على سفن لم تُقدَّم أدلة على أنها تحمل مخدرات، فقتلت العشرات من أفراد أطقمها واعتقلت غيرهم، واستولت على عدد من السفن الناقلة للنفط. فرض الحصار البحرى واستخدام القوة لا يجوزان إلا بقرارات تصدر عن مجلس الأمن بمقتضى المادتين 41 و42 من الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. والغريب أنه لم يصدر عن أى طرف فى المجتمع الدولى تذكير بذلك أو تنديد بسلوك الولايات المتحدة. ومع ذلك، فحتى هذا المبرر الثانى والسلوك الأمريكى الناتج عنه ليسا موضوعنا اليوم.
موضوعنا هو المبرر الثالث. فقد كرر الرئيس الأمريكى ومعاونوه فى الأيام الأخيرة أن فنزويلا اغتصبت حقوق النفط الأمريكية فيها، مضيفًا أنه «كان لنا نفط كثير وأراضٍ هناك، وأننا سنسترجعها». أغلب الظن أن الرئيس كان يفكر فى تأميم الرئيس السابق هوغو تشافيز لنفط فنزويلا سنة 2007. ويهمنا هذا الأمر لأنه يمس الجنوب العالمى كله، بما فيه مصر، التى كانت من أوائل من قاوموا المنطق الذى يتبناه الرئيس الأمريكى اليوم. وبموقفها كانت مصر قد ساهمت فى تنمية القانون الدولى فى الحقل الاقتصادى وفى انعتاقه من الإرث الإمبريالى.
• • •
فى دراسة عن الولاية الداخلية والسيادة نُشرت سنة 1960، أبرز الباحث المصرى الشاب فى ذلك الوقت، جورج أبى صعب، الذى صار فيما بعد أستاذًا مرموقًا يُشار إليه بالبنان، ثم واحدًا من أساطين القانون الدولى فى العالم، مدّ الله فى عمره ومتعه بالصحة، أنه بعد تأميم قناة السويس سنة 1956 رفضت مصر الاشتراك فى مؤتمر المنتفعين فى لندن، مستندةً فى ذلك إلى مبدأ سيادتها على إقليمها ومواردها. وكانت الجمعية العامة للأمم المتحدة قد اتخذت سنة 1952 القرار رقم 626 المعنون بـ «السيادة الدائمة على الثروات والموارد الطبيعية».
وفى مقال علمى عمدة نُشر فى المجلة المصرية للقانون الدولى، تابع الدكتور جورج أبى صعب تطور القانون الدولى فى هذا الموضوع، فحلل المبادئ السبعة الواردة فى قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 2625 الصادر سنة 1970 بشأن «مبادئ القانون الدولى المتعلقة بالعلاقات الودية والتعاون بين الدول وفقًا لميثاق الأمم المتحدة». ولم يأتِ هذا الإعلان بجديد يُذكر بشأن السيادة على الموارد الطبيعية. أما التقدم الذى أحرزته بلدان ما كان يُسمّى بالعالم الثالث فى ذلك الوقت فتعلق بمبدأ الامتناع عن التهديد باستخدام القوة أو استخدامها ضد سلامة أراضى أى دولة أو استقلالها السياسى. وكانت دول أمريكا اللاتينية، بوجه خاص، ذات أثر حاسم فى التقدم المُحرز بحظر استخدام أى مصادر للضغط العسكرى أو الاقتصادى أو السياسى كوسائل للتدخل فى الشئون الداخلية أو الخارجية للدول.
ويواصل جورج أبى صعب تتبعه لتطور حماية مصالح بلدان العالم الثالث، أو الجنوب العالمى، فى القانون الدولى، فيتناول بالتحليل اتفاقية فيينا بشأن قانون المعاهدات، ويشدد على مادتها رقم 52 التى تنص على أن أى معاهدة تكون باطلة إذا كان إبرامها قد تم بالتهديد باستخدام القوة أو باستخدامها، بما يتنافى مع مبادئ القانون الدولى الواردة فى ميثاق الأمم المتحدة.
• • •
قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 3201 الصادر سنة 1974 بشأن «إعلان النظام الاقتصادى العالمى الجديد» نص صراحة فى فقرته الرابعة (هـ)، وبشكل لا لبس فيه، على «السيادة الكاملة والدائمة لكل دولة على مواردها الطبيعية وكل أنشطتها الاقتصادية. ومن أجل الحفاظ على مواردها، لكل دولة أن تمارس السيطرة الفعلية عليها واستغلالها بالوسائل المناسبة لوضعها، بما فى ذلك الحق فى التأميم ونقل الملكية لمواطنيها، باعتبار هذا الحق تعبيرًا عن السيادة الدائمة للدولة». وميثاق الحقوق والواجبات الاقتصادية للدول الصادر عن الجمعية العامة فى نهاية سنة 1974 يواصل هذا التطور، فينص فى مادته 2/1 على أن لكل دولة أن تمارس بحرية السيادة الدائمة والكاملة على ثرواتها ومواردها الطبيعية وأنشطتها الاقتصادية، بما فى ذلك تملكها واستخدامها والتصرف فيها. ولكل دولة كذلك الحق فى تنظيم وممارسة سلطتها على الاستثمار الأجنبى داخل ولايتها القضائية الوطنية وفقًا للقوانين واللوائح، وبما يتفق مع الأهداف والأولويات الوطنية.
هذا هو التقدم المعتبر المُحرز فى القانون الدولى، الذى يقرن السيادة الكاملة والدائمة على الموارد الطبيعية، المترتبة على الحق فى تقرير المصير، بحظر التهديد باستخدام القوة أو استخدامها للتدخل فى الشئون الداخلية أو الخارجية لأى دولة. صحيح أن الحقبة النيوليبرالية التى يعيشها العالم منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضى قد فككت هذه الضوابط، وسارت بالاقتصادات الوطنية والاقتصاد العالمى فى اتجاه مختلف عن ذلك الذى أراده إعلان النظام الاقتصادى العالمى الجديد وميثاق الحقوق والواجبات الاقتصادية للدول، ومع ذلك فإن المبادئ الواردة فى الإعلان والميثاق لا تزال قائمة، ولم يُبطلها أى إعلان أو ميثاق جديد.
وعلى الرغم من رجوع حكم اليمين الشعبوى المتطرف فى عدد من دول أمريكا اللاتينية، آخرها شيلى، فإن المراقب يتساءل عن مواقف مجمل دول القارة، التى كانت فى أول صفوف من شددوا على عدم استخدام القوة للتدخل فى شئون الدول الأخرى، خاصة فى الوقت الذى يدعو فيه الرئيس ترامب صراحة إلى إحياء وتجديد مبدأ مونرو، الذى يجعل من نصف الكرة الأرضية الغربى فناءً خاصًا للولايات المتحدة، بما ينطوى عليه ذلك من إهانة لها.
يتساءل المراقب أيضًا عن مواقف دول الجنوب العالمى عمومًا، ومنها مصر، إذا ما عُرض على الجمعية العامة للأمم المتحدة أمر حصار فنزويلا وتبرير الولايات المتحدة لحربها المحتملة عليها باسترجاع ما تزعم أنه حقوقها المؤممة فيها. فقبول ادعاءات إدارة الرئيس ترامب بهذا الشأن ينطوى، مثلًا، على تقويض لتفسير مصر لحقها فى تأميم قناة السويس، ويفتح الباب أمام الاعتراض على كل تأميم للموارد الطبيعية أو تنظيم لاستغلالها، بدءًا من تأميم المكسيك لنفطها سنة 1937.
ادعاءات الولايات المتحدة بشأن نفط فنزويلا تمثل عودة إلى الحقبة الإمبريالية. والسكوت على هذه الادعاءات غير مقبول قانونيًا ولا سياسيًا ولا أخلاقيًا.
أستاذ الأبحاث بالجامعة الأمريكية بالقاهرة